ما يحصل لا يُصدّق: بطاقة خارج الخدمة تهدّد حياة 90% من الشعب اللبناني
” بينما أقود سيارتي برفقة عائلتي، أصابني صداع شديد، آخر ما أذكره أنّني فتحت باب السيارة لأترجّل منها، وبعد ساعات استفقت على صوت زوجتي وأولادي في المستشفى، وهم في حالة ذعر. رَوَوْا لي ما حصل، فقدتّ الوعي وسقطتُ أرضًا، ظنّت عائلتي أنّني فارقت الحياة، عاشوا أوقاتًا عصيبة قبل أن استعيد وعيي في المستشفى. ناشدَت عائلتي المارة الذين سارعوا لطلب سيارة أسعاف، كانوا يتناقلون عبارة اسرعوا هناك دركي مُلقى على الأرض. أُجريت لي كلّ الفحوصات الضرورية، فلم يتبيّن للطبيب سبب العارض الصحي الذي أصابتني، فسألني “عم تعصب كثير؟” أجبتُه بابتسامة لا تخلو من الإستغراب. القصّة ليست هنا، بل بصدمتني عندما توجّهت لقسم المحاسبة شاهرًا بطاقتي الأمنيّة بكلّ ثقة، ليجيبني الموظّف بأسلوب ساخر “وين عايش؟ بطاقة شو؟ ضبا يا عيني ضبا ما عاد إلها لزوم”، ثم راح يفسّر لي أنّ المستشفيات لم تعد تقبل بالبطاقة الصحيّة الخاصة بقوى الأمن منذ أشهر عديدة، نظرًا لفارق التعرفة، وأنّ عليّ أن أدفع خمسة ملايين ليرة، وهو مبلغ يتجاوز راتبي بأضعاف”.
هذه القصّة التي رواها لـ “لبنان 24” عنصر أمني، هي عيّنة صغيرة من مئات القصص المشابهة في حياة اللبنانيين، الذين باتوا بأغلبيتهم الساحقة من دون أيّ تأمين صحي. أمّا الجهات الضامنة فلم تعد تعرِفاتها تشكّل سوى جزءًا بسيطًا لا يتجاوز العشرة بالمئة من الفاتورة الاستشفائية. والسبب أنّ المستشفيات تُسعّر كلفة الاستشفاء وفق سعر صرف الدولار في السوق الموازية، الذي بلغ 25 ألفًا، بينما تعرفة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ما زالت وفق سعر الصرف الرسمي. حال الجهات الضامنة الأخرى ليست أفضل، والفارق على عاتق المريض والذي يقدّر بـ 10 بالمئة، أصبح يصل إلى مئات ملايين الليرات.
فواتير الإستشفاء خياليّة
“يوميًّا أتلقّى اتصالات ومناشدت بتوجع القلب، بعضهم يريد دواء للسرطان، البعض الآخر يسأل عن دواء للمناعة، بعضهم يحتاج لراسور أو ورك أو أيّ مستلزمات أخرى. يضاف إلى ذلك أمر بالغ الخطورة، أطلعتني عليه الجمعيّةُ اللبنانيّة لطب العيون، هناك نقصٌ كبير في الأدوية التي تُستخدم لمعالجة مرضى ضغط العين وأمراض أخرى في شبكة العين، تهدّد المرضى بفقدان بصرهم. الناس متروكة تواجه المرض وفواتير الإستشفاء التي باتت خياليّة. العديد من الأدوية مفقودة، منها أدوية الأمراض المستعصية كالسرطان وأمراض مناعية، حتّى أنّ هناك مرضى مقتدرون ومستعدون لشراء أدوية السرطان، ولكنها غير موجودة، لا نعرف أين المعضلة ولماذا لا تُستورد الأدوية، ما يحصل هو كارثة حقيقية بكل المقاييس، أشعر وكأنّنا نعيش كابوسًا” .
هكذا وكثير من اليأس يوصّف رئيس لجنة الصحة النيابية النائب الدكتور عاصم عراجي حال القطاع الصحي، والتداعيات تصيب الناس في صحّتهم وأرواحهم “ما حصل مع الرئيس سليم الحص أبرز دليل، بحيت استدعى دخوله للمستشفى تدخّلًا مباشرًا من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، فكيف حال بقية الناس؟” يسأل عراجي في حديثه لـ “لبنان 24”.
بلغ الإنهيار القطاع الصحي، واقعا لا يختلف إثنان على توصيفه، لكن أين الحلول والإقتراحات التي عملت لجنة الصحة النيابية على مناقشتها مرارًا وتكرارًا؟
“لم يتجاوب معنا أي فريق، وحده البنك الدولي ساهم لمدّة ستّة أشهر فقط لا غير بتغطية ضعفين ونصف من قيمة فاتورة الإستشفاء، مؤسسة الجيش تمكّنت من تأمين أربعة أضعاف، على عكس الضمان الإجتماعي وتعاونية موظفي الدولة وباقي الجهات الضامنة”.
التأمين لحاملي الدولار
الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يغطّي كلفة استشفاء حوالي 30 بالمئة من الشعب اللبناني، وزارة الصحة وتعاونية موظفي الدولة وطبابة الجيش وقوى الأمن تغطي حوالي 45 بالمئة من اللبنانيين، وضع الجيش أفضل حالاً من القوى الأمنية، فهو يملك المستشفى العسكري الخاص به، كما تمّكنت قيادة الجيش من تأمين مساهمات طبيّة، في حين أنّ المستشفيات المتعاقدة مع قوى الأمن ترفض استقبال العناصر الأمنيّة للمعالجة. قلّة قليلة من اللبنانيين من جماعة “الفريش دولار” تمكّنت من تجديد تأمينها الصحي لدى شركات خاصة، خصوصًا أنّ الأخيرة تشترط الدفع بالدولار النقدي.
المعضلة تكمن في التعرفة، نقابة المستشفيات الخاصة تحتسب تكلفة الأدوات والمستلزمات الطبيّة والإستشفائية، وفق سعر صرف الدولار في السوق الموازية، وهذا ما يجعل الفارق يتخطى 15 ضعفًا تعرفة الضمان، الفروقات الماليّة تحمّلها المستشفيات للمرضى. تعديل التعرفة من قبل الضمان الإجتماعي لا يبدو أنّه وارد في المدى المنظور وفق عراجي. مدير عام الصندوق محمد كركي كان قدّ قّدم اقتراحاً ينص على زيادة تعرِفات الضمان، من خلال فرض زيادة على الإشتراكات التي يدفعها صاحب العمل والحكومة والموظف للصندوق، لكن الإقتراح لم يُترجم “هناك مستحقّات للضمان لدى الدولة تتجاوز الـخمسة مليار دولار لم تدفع منها شيئًا، في مشروع الموازنة وزّعوها على عشر سنوات. هناك العديد من المضمونين لا يدفعون اشتراكات، وهناك مؤسسات ومصانع وشركات تحقّق أرباحًا، لم تسجّل الزيادات التي طرأت على رواتب الموظفين في الضمان، ولا زالت تدفع الإشتراكات القديمة، وكلّها أمور تزيد من عجز الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي” يقول عراجي
دواء مفقود يهدّد حياة سبعة أطفال
على الرغم من رفع الدعم عن الأدوية، لا زال العديد منها مفقودًا، وهو أمر يهدّد حياة الآف المرضى، وفق ما يشير إليه عراجي”هناك دواء يتناوله سبعة أطفال على صعيد لبنان كلّه، وفي حال لم يتمّ تأمينه سيموت هؤلاء. لطالما حذّرنا من تهريب الأدوية إلى الخارج، وها نحن اليوم ندفع الثمن بفقدان الأدوية وعدم القدرة على استيرادها بعد رفع الدعم عنها. الأدوية التي دخلت إلى البلد وتمّ تخزينها تتجاوز الضعفين، بالأمس اشتريت علبة دواء من صيدلية بـ 200 ألف ليرة ومن صيدلية أخرى بـ 24 ألف وهذا مؤشّر على التخزين. الفلتان يصيب كل القطاعات، لكنّ الصحة والأمن خط أحمر، وما يحصل لا يُصدّق”.
الحلّ بالبطاقة الصحيّة الشاملة
رغم سوداوية الواقع الإستشفائي في لبنان، لا زالت الحلول ممكنة، منها إقرار البطاقة الصحية الشاملة التي تغطي كلّ اللبنانيين المضمونين وغير المضمونين، بما فيهم العسكر والقوى الأمنية، بدل تعدّد البطاقات والتأمينات التي أنهارت مع انهيار العملة. من شأن البطاقة الصحيّة أن تنجز ملفًا طبيّا لكل مريض سيكون موجودًا في كلّ المستشفيات، مشروعُها موجود في مجلس النواب منذ العام 2008، وقد أُشبع درسًا في لجان الصحة والإدارة والمال، بما في ذلك طرق التمويل، لكنّها لم تُقر في الهيئة العامة، ولا أحد يملك جوابًا عن سبب تجميدها في الأدراج.