بلاغ إلى اللبنانيين… هل تشملهم هدنة غزّة ؟
تخوض إسرائيل و”حزب الله” حرباً حقيقية منذ 8 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي، أي منذ اليوم التالي لـ”طوفان الأقصى”. يتبادل الطرفان الضربات غير المتكافئة بالنظر إلى تفاوت الإمكانات العسكرية التي يمتلكانها. أجلت إسرائيل سكان المستوطنات في الشمال، وبالمقابل، في لبنان، نزح سكان الجنوب، لا سيما في القرى الحدودية، إلى مناطق داخلية أكثر أمناً. وفي بديهيات ما يجري أنّها حرب حقيقية لا يعترف المتقاتلون بحدوثها.
بالنسبة لإسرائيل فإنّ قرار الحرب الشاملة بمعناها الكلاسيكي ضدّ “حزب الله” في لبنان ليس محصوراً بما تقرّره حكومة الحرب. ظهر انقسام حول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بشأن مراحل الحرب في غزّة (خصوصاً مسألة التفاوض لاسترجاع الأسرى الإسرائيليين)، لكن هناك إجماعاً كاملاً، في ما هو معلن على الأقل، أظهرته تلك الحكومة في دعم تهديدات رئيس الحكومة ضدّ لبنان ورفد خطط وزير الدفاع يوآف غالانت المهوّلة بمصير غزّة في لبنان. ومع ذلك، فإنّ إسرائيل لا تملك وحدها قرار الحرب في لبنان.
حتى إشعار آخر، ما زالت الولايات المتحدة تكرّر مقولة الحرص على منع توسيع رقعة الحرب في غزّة، خصوصاً باتجاه لبنان. لم تخفتْ نبرة الرئيس جو بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن ومدير الـ CIA وليام بيرنز في عدم الإيحاء لإسرائيل بضوء أخضر في هذا الصدد. في المقابل تحرص واشنطن وموفدوها -كما موفدو فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها من الدول الغربية- على التطوّع لتحذير لبنان من مغبّة استمرار “حزب الله” في “تهديد أمن إسرائيل”. تدفقوا نحو بيروت حاملين، إلى جانب الوعيد الإسرائيلي، أوراقاً وأفكاراً ومقترحات لنزع فتيل “الصدام الكبير”.
لم يحدّْ المستشار الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين عن هذه القاعدة. يغيب الرجل عن لبنان ويظهر وفق توقيت إسرائيلي. فغيابه غير مبرّر، وهو المكلّف من قِبل إدارة بايدن بالتوسط لإنهاء النزاع الحدودي (وغيره) بين لبنان وإسرائيل. مُعوَّلٌ عليه لإنجاح ترسيم للحدود البرية على منوال ما حققه بإبرام اتفاق الحدود البحرية في تشرين الأول (اكتوبر) 2022. في المقابل فإنّ حضوره، في سياق حرب غزّة، بات يندرج دائماً في إطار ما يحتاجه الموقف من ضغوط دبلوماسية أميركية تُضاف إلى موجات الضغوط النارية الإسرائيلية التي يُنفخ بها باتجاه لبنان، سواءً ضدّ جنوبه أم ضدّ مناطق آخرى بعيدة من شمال نهر الليطاني الشهير.
تتحرّك واشنطن وفق ثابت عدم الموافقة على حرب إسرائيلية ضدّ لبنان “حتى الآن”، ومتحوّل زيارات موفدها إلى بيروت. في الثابت ردع محسوب لإسرائيل وفي المتحوّل إرضاء لتل أبيب في ما يحمله هوكشتاين من مطالب ميدانية، هي إسرائيلية بامتياز، تروم طمأنة سكان المستوطنات. وعليه يتهرّب الرجل من الدخول في أي نقاش جدّي بشأن النقاط الحدودية المتنازع عليها، كما مسائل الانسحاب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر.
تبدو جهود واشنطن الدبلوماسية جلبة على هامش الحرب وليست ورشة لإزالة احتمالها ضدّ لبنان. ولا يمكن اعتبار زيارة هوكشتاين الأخيرة -في ما حمله من مطالب مكرّرة بشأن انسحاب الحزب بضعة كيلومترات شمال الليطاني على طريق تنفيذ القرار الأممي رقم 1701- بأنّها فاشلة. فالرجل لم يتوقّع نجاحاً ولا استجابة لأمنياته، ولم يأتِ أساساً إلى البلد إلاّ لكي يكون جهده، على رغم كل الضجيج الإعلامي المفرط، مواكباً لا كابحاً للجهد الحربي الإسرائيلي لبنان.
ليس في الأمر كشف. المنطقة برمّتها قيّد التشكّل وموازين قواها قيّد الظهور. ووفق ما ستنتهي إليه حرب غزّة فلا عجلة في فتح الملفات الحقيقية لإنهاء “النزاع” الطوبوغرافي، على الأقل، والانخراط في ما يشبه “الحلّ النهائي”. الأمر يحتاج إلى جلاء المآلات الكبرى التي ستنتهي إليها حرب غزّة واستطلاع تداعياتها على موازين القوى الإقليمية. الأمر يحتاج أيضاً إلى وضوح مآلات الحرب في أوكرانيا لاكتشاف موازين قوى دولية تطلّ ظلالها حكماً على أية طاولة مفاوضات يرعاها هوكشتاين أو غيره.
من أجل عدم توسيع رقعة حرب غزّة، تمتنع الولايات المتحدة عن إشعال حرب ضدّ جماعة الحوثي في اليمن. تتمسك بتكتيكات محدودة لا ترقى إلى مستوى التحدّي المتصاعد ضدّ الملاحة الدولية في البحر الأحمر. ومن أجل إقناع إسرائيل بعدم خوض حرب يتكرّر الوعيد بها ضدّ لبنان، قدّمت واشنطن هوكشتاين، إضافة إلى موفدين دوليين آخرين، لنقل رسائل إسرائيل وتهديداتها. قدّمت أيضا غضّ طرف، يشبه ذلك الممارس داخل سوريا، يتيح لتل أبيب اختراق “قواعد الاشتباك” المزعومة واستباحة مناطق في الداخل اللبناني، في الشوف أو في البقاع وبعلبك أو حتى في الضاحية نفسها. الأمر يتيح استنزافاً نوعياً موجعاً لمواقع وقيادات للحزب، من دون أن يؤدي هذا “المحرّم” إلى انزلاق نحو هاويات غير محسوبة.
قد تمثّل ضربات إسرائيل بالقرب من بعلبك البعيدة حوالى 100 كلم عن الحدود، الوجه الآخر لابتسامة هوكشتاين في بيروت. التقى الرجل لمدة 90 دقيقة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، بما اعتُبر اجتماع الأصل، فيما بدت لقاءات مع قيادات البلد الأخرى فرعاً. داخل ذلك الأصل جرى التفاوض مع “حزب الله”. أوصل رجل أميركا رسائله إلى طهران أيضاً. لسان حاله أنّه قام بزيارته المحدّدة المهام والمتعلّقة فقط بأجندة الحرب. حتى أنّه خاطب لبنان بخبث قائلاً إنّ “هدنة غزّة المحتملة لا تشملكم”. وحين غادر لم يفهم اللبنانيون لماذا أتى.
أخذت اللجنة الخماسية علماً بطبيعة مهمّة موفد واشنطن. باتت أشدّ قناعة بأنّ أزمة لبنان وانتخاب رئيس باتا، على تعقّدهما، يحتاجان إلى انتظار جلاء ما يخفيه “اليوم التالي” لانتهاء حرب غزة، التي لا تعني انتهاء احتمالات الحرب ضدّ لبنان.
النهار