المطار “السيّئ” دولياً: معضلة الكهرباء والصيانة والتوظيفات العشوائية
حركة الإعمار الديناميكيّة المُنتهجة منذ نهاية الحرب الأهليّة اللّبنانيّة حتّى السّنوات الأولى من القرن الحالي (وبالرغم من واقع الاحتلال السّوريّ)، كان فحواها الانكباب الحثيث والدؤوب على إعادة تركيب وترميم أوصال البلد والجمهوريّة الممزقة، كما افتعال النسيان والقفز السّريع من حقبة دمويّة نحو حقبة عمران، وتأليف لغة سياسيّة مُستحدثة بعيدة عن الإيديولوجيا المتزمتة، وخلق توليفة حقيقيّة تُعطي لبنان الحقّ في إطلاق مُسمى دولة المؤسسات والقانون على نفسه.
أُطر الديناميكيّة هذه، لم تتوقف حينها على زخرفة وتجميل وسط البلد وحسب، بل شملت كل القطاعات المنكوبة، من الإدارات، المرافق العامة (مطار ومرفأ..)، مرورًا بالمشافي ودور الرعايّة الصحيّة وصولاً للمدارس والجامعات، المساحات العامة، وغيرها..
اليوم وبعد ما يربو عن الثمانيّة عشر عامًا على التحطيم المقصود لعجلة هذه الديناميكيّة، وعلى الاغتيال العلنيّ لطموحات اللّبنانيين اللاهثة وراء الانضمام للعالم المُعاصر، وعلى غلبة السّلاح واللّصوصيّة والعنف على الديمقراطيّة والحقوق والحداثة، لم يبق شيء سوى جثّة الدولة المُتحلّلة، بخرابها المزمن، بالرثاثة الإداريّة والسّياسيّة، بتعفنها الماليّ والاقتصاديّ. من المصارف والإدارات مرورًا بمرفأ بيروت والعملة الوطنيّة ووصولاً اليوم للجامعة اللبنانيّة ومطار بيروت “الدوليّ”.
مطار بيروت (رفيق الحريري) الدوليّ
تتفاعل منذ نحو الأسبوع صورة لإحدى قاعات مطار بيروت، تُظهر الانقطاع الكليّ للكهرباء في المطار. وهذه الصورة التّي تبين لاحقًا أنها مفبركة، قد أثارت خضة واسعة في صفوف المواطنين كما المعنيين، خصوصاً أن السّلطات الرسميّة عملت في الشهور الأخيرة على التّرويج للصيف السّياحي الاستثنائي الذي ينتظر لبنان، مع إحصاءات لأعداد الوافدين (من المغتربين والسّياح) المتوقع قدومهم عبر المطار الدوليّ، الذي بات مؤكدًا أن أزمة الانقطاع المزمن للكهرباء، حقيقة مؤرقة.
الأمر الذي أُضيف إلى سلسلة الأزمات المتناسلة التّي تحيط بالمطار، من الأعطال التّقنية المؤديّة لانعدام التّكييف والتدابير التّي تؤمن راحة المسافرين، وغياب الصيانة والتنظيفات، والازدحام المفرط نتيجة ضعف التنظيم الأمنيّ والإداري، فضلاً عن ملف التّوظيفات العشوائيّة في الإدارات المتواجدة، والتّي أدّت مؤخرًا لتهديد جودة الملّاحة الجويّة (سجال استقدام مراقبين جويين من المنظمة الدولية للطيران المدني، بسبب النقص بالمراقبين غير المثبتين لاعتبارات طائفيّة). ذلك كلّه من دون الحديث عن مستوى المطار وتخلفه عن التحديثات اللازمة التّي قامت بها غالبية المطارات في العالم.
فأزمة الانقطاع المزمن للكهرباء وما يرافقها، قد باتت ظاهرةً للعيان. إذ أن مطار رفيق الحريري، يعمل منذ نحو الأسبوع على المولدات الكهربائيّة الخاصة، حيث كشف وزير الأشغال العامة والنقل في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، علي حمية، في حديث للصحافيين قبيل جلسة مجلس الوزراء يوم الخميس 17 آب الجاري، أن مطار بيروت يعمل على مولداته الكهربائية الخاصة منذ اليوم بشكل مستمر، ومن دون توقف، ذلك بسبب توقف معملي دير عمار والزهراني عن العمل عند الّساعة الخامسة من تاريخ 16 آب الجاري، قائلاً “الأمر الذي حتّم علينا تشغيل 4 مولدات قدرة كل منها 2 ميغاوات أي بمجموع 8 ميغاوات ليبقى عمل المطار مستمرًا من دون أي توقف أو خطأ”.
هذا فيما أشارت مصادر “المدن” في المطار أن هناك انقطاعًا للكهرباء يُباغت المطار بصورة شبه يوميّة أحيانًا يمتد من ثوانٍ معدودة إلى دقائق، أو حتّى ربع ساعة تقريبًا. الأمر الذي يؤدي لحالة فوضى في المطار، الذي يتوافد إليه يوميًا الآلاف من المسافرين وذويهم. وللاستفسار عن صحّة هذا الحديث والإجراءات المُزعم إقامتها لتدارك الأزمة، تواصلت “المدن” مع وزير الأشغال، علي حمية، من دون الحصول على أي ردّ.
أزمات متناسلة
وهذه الأزمات التّي استفحلت مؤخرًا، كانت حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي، قد تداولتها في اجتماع عُقد في السرايّ الحكوميّ مطلع الشهر الماضي، حيث شارك فيه وزراء الداخليّة والبلديات القاضي بسام مولوي، السّياحة وليد نصار، الأشغال العامة والنقل علي حمية، المدير العام للأمن العام اللواء الياس البيسري، المدير العام للطيران المدني فادي الحسن، ورئيس مجلس إدارة والمدير العام لشركة طيران الشرق الأوسط الخطوط اللبنانية محمد الحوت. وهدف الاجتماع لوضع إجراءات عاجلة لتخفيف الازدحام بمطار رفيق الحريري في بيروت مع استقبال 36 ألف راكب يوميًا.
وفيما يبدو أن الإجراءات “العاجلة” هذه، لم تتمكن حتّى الآن من وقف الفوضى الإداريّة المقرونة بالاستهتار الرسميّ بحياة المواطنين وجودة الملّاحة الجويّة، خصوصاً أن الأمور بقيت على ما هي عليه بالرغم من هذه القرارات، وزادت في الآونة الأخيرة (كما تُشير المصادر المُتابعة)، الأمر الذي دفع بوزير السّياحة، وليد نصار، إلى مناشدة جميع المعنيين بموضوع مطار بيروت، في بيان، لعقد اجتماع طارئ بهدف إيجاد حلول سبق وكنت قد اقترحتها منذ 3 أشهر لاتخاذ بعض الخطوات الاستباقية لتأمين الإجراءات التي تسهل وتحترم حركة الوافدين كما المغادرين من وإلى مطار رفيق الحربري الدوليّ.
فيما يطرح هذا الواقع تساؤلات حول أسباب هذا التقصير الرسميّ والأزمات، خصوصاً أن الرسوم المفروضة على تذاكر السّفر (وبالفريش دولار) مُخصّصة بجزء منها لماليّة صندوق المطار، الذي يدفع بدوره أجور عمال الصيانة لأهم المرافق العامة في البلد، كما هو مسؤول مع شركات الخدمات الأرضيّة في مطار بيروت، لدفع أجور المستخدمين واتمام الإجراءات المُتعلقة بنظافة المطار، والقاعات، والحمامات، والمكاتب.
ad
التّوظيفات العشوائيّة
أما تعقيبًا على السّجال الحاصل بخصوص المراقبين الجويين، فقد تداولت وسائل إعلام عدّة، خبر صدور تقرير (منذ عدّة أيام) عن منظمة الطيران المدني الدوليّ “ICAO”، والوكالة الأوروبيّة لسلامة الطيران “EASA”، صنفت فيه مطار رفيق الحريري الدوليّ بلبنان بـ”ما دون المقبول”، والذي أحدث موجة سخط في صفوف المعنيين المستنكرين لهذا التّصنيف، وحملوا الإدارات المعنية وزره. الأمر الذي اضطر المديرية العامة للطيران المدني لإصدار بيان، تُبرّر فيه سبب هذا التصنيف. فيما تحفظ مدير عام الطيران المدني، فادي الحسن، عن التّعليق لـ”المدن” مكتفيًا بالبيان الذي نُشر سابقًا.
أمام هذا السّجال الذي أماط اللثام عن الاستتباع الأعمى والفساد الإداري والسّياسات الفاشلة التّي يسلكها المعنيون بملف مطار رفيق الحريري، والعرقلة المقصودة لحسن سير أعماله، من خلال عدم تثبيت الناجحين بمجلس الخدمة المدنية منذ عام 2018 (غالبيتهم من المسلمين) من قبل رئيس الجمهورية السّابق ميشال عون، فينعكس أيضًا على باقي المسميات الوظيفيّة في المطار، خصوصاً بفعل النقص الحادّ في الموظفين والأجراء في المطار المنوط بالأزمة الاقتصاديّة وجائحة كوفيد – 19.
وعليه، فقد فُتح سوق التّوظيفات العشوائيّة القائمة على المحسوبيات السّياسيّة والطائفيّة. إذ تُشير مصادر “المدن” أنه يتم توظيف عدد من الأشخاص في وظائف إداريّة (من دون أي اعتبار للمؤهلات التعليمية والخبرات) وأخرى تستلزم جهداً بدنيّاً (كعمال نقل البضائع والحقائب للطيارات وإلى داخل المطار)، مقابل مبالغ ماليّة أو وساطات، فيما تتراوح الأجور بين 300 دولار أميركي لتصل إلى عتبة 1500 دولار أميركي. وتتحدث المصادر عن كون هذا الأمر قد لوحظ في الإدارة العامة للمطار كما وفي شركة الشرق الأوسط للطيران “MEA”.
إذًا، وفيما يبدو أن الفساد المستشري في المكاتب والإدارات العامة في مطار بيروت، فضلاً عن الإهمال الرسميّ، قد جعل من مطار بيروت “الدوليّ” محطة يمرّ فيها المسافرون ذهابًا وإيابًا، عينة مصغرة عن الإفلاس العام والنهب المستمر لما تبقى من أشكال الدولة، بل ويستشفون منها أشكال الانهيار اللّبنانيّ مُتعدد الأوجه، وخدعة الدعاية السّياحيّة المزعومة.