جاء في نداء الوطن:
أصبح اللبناني قادراً على اصدار كتيب يعلّم فيه العالم»ايديولوجية الصمود». ومع نمط الحياة اليومية المذل والانهيار الدراماتيكي لكل القطاعات المنعكسين على كل تفاصيل الحياة، صار مشروعاً السؤال عن «اتفه» التفاصيل: كيف يصل الموظف الى مركز عمله، مع شبكة الطرقات المنهارة، وبنية النقل العام المهترئة؟
باص أم سرفيس؟
7 اشهر كانت كفيلة بتغيير نمط حياة شربل الموظف في الدورة ويقطن في جبيل. فمع تأزم الأوضاع المالية وارتفاع سعر البنزين اختار الحل الأوفر للوصول الى مكتبه اي اعتماد بالباص. وبعملية حسابية بسيطة وجد شربل انه ان اعتمد السيارة او السرفيس قد يدفع يومياً 200 ألف ليرة أي 6 ملايين ليرة شهرياً، وراتبه كله لا يصل الى 4 ملايين. ومع هذا الخيار الأوفر سيكلف المشوار الى المتن في «الروحة والرجعة» 40 الف ليرة يومياً، أي كلفة الإنتقال بالباص. بعيون دامعة ووجه شاحب، نتيجة ارهاق العمل، يخبر عن ذل الباص والصراع على المقاعد بسبب كورونا، إضافة الى «أخلاق» السائق في القيادة، والذي في معظم الأحيان لا يلتزم بأي ضابط. التبدل في المستوى المعيشي ملموس مع شربل الذي فقد راتبُه قيمتَه كموظف، لكنه يخفف عن نفسه عند تعميم المسألة على كل اللبنانيين الذين تغيرت أنماط حياتهم في مختلف النواحي، من عادات الاكل الى الملبس. ينطبق هذا الوضع على الموظف كما على الطالب الجامعي، الذي يأتي من البترون الى الكسليك، فاختار حبيب (طالب جامعي) الباص كذلك الأمر، كي لا يرهق «جيبة» الاهل، فلا راتب الوالد يكفي لدفع الأقساط الجامعية، ولا راتب الأم يريد صرفه على مصروفه الخاص، ومن هذا المصروف كلفة التنقلات التي استطاع أيضا تحجيمها بان يتشارك سيارة زملاء له في بعض أيام الأسبوع.
كيف تنعكس سياسة التقشف على السائقين؟
سياسة «التقشف» المعمّمة بين اللبنانيين، خصوصاً في التنقل، تنعكس مباشرة على السائقين العموميين من باصات ومن سرفيس. الا انه على كل المواقف التي هي معروفة بين الاحياء والمناطق، يتوحد السائقون للوقوف لحظات بانتظار موظف يتجه الى عمله بين الساعة 6 الى الثامنة صباحاً.
في كسروان وجبيل المواقف قديمة للسرفيسات، وثابتة لا تتغير، حتى ليخيل اليك ان السائقين خالدون، لو كان الشيب طغى على شعر رؤوسهم. يخبر سمير سائق السرفيس أنه يعمل كل النهار على موقف غزير ليحصد اما 3 ركاب او 4 بـ30 الفاً على الراكب، متنقلاً بين شوارع المنطقة، وإنه قد يصل الى المنزل أحيانًا «ايد لقدام وايد لورا»، والمبلغ المحصود هو عبارة عن ربع تنكة بنزين. ان كان محظوظاً يبقى له من الغلة مئة الف ان كان قد تحرك كثيراً خلال النهار. هذه المئة الف، ويبدو بانها غلة «موحدة»، لا تكفي ميشال (موقف ادما) لتصليح دولاب ان «وفّرها» على شهر، لذا يصلي يومياً ان تأتيه الرزقة من مكان ما، أي ان يتصل به «راكب» يريد التوجه الى مكان بعيد كطرابلس، المطار لكن ان يجول هكذا في لبنان «فلا»! فهكذا سيقع في خسارة. ميشال نسي أمر مساعدة الـ 400 الف ليرة من وزارة النقل، فتلك تحتاج الى واسطة على حد تعبيره، والكثير من المعاملات للحصول عليها فكأنه دفعها ليعود فيأخذها.
راكب غير متوفر
وعند الدورة، الشريان الذي تصب فيه حركة الذهاب والأياب الى كل لبنان، هناك أكثر من موقف وزاوية، ويضحك احد السائقين قائلا: «كل موقف مسيّس». هنا لا تسعيرة موحدة، فجرجي عند موقف زحلة – الدورة، يأخذ طلبيات طلاب جامعات او موظفين في زحلة الى بيروت، وأصبحت «النقلية»، تكلف اكثر من مليون ونصف مليون ليرة، فبعد ان كانت حركة عملهم يومية أصبحت أسبوعية.
أما زميله في زاوية أخرى فيتقاضى 40 الف ليرة عن الراكب داخل بيروت، وفي احياء المتن 40 الفاً، وهناك هاني وهو حالة مميزة اذ يتقاضى مئة الف ليرة على النقلة، وهذه التسعيرة هي على هواه، تماشياً مع أسعار الوقود. ومع هكذا أسعار، حركة الحياة عنده متوقفة على سياسة توفير الموظفين بسبب تدني الرواتب نسبة الى السائقين العموميين لتخفيض كلفة النقل على المواطن. يشكو هاني من انتشار السوريين الذين اصبحوا يملكون سيارات او حتى تلك السيارات السورية العمومية التي تدخل لبنان وتجول من مرفأ بيروت بين المناطق مشيرأ الى أن هذا ممنوع ضمن القانون اذ هي فقط تقل الراكب من المرفأ مباشرة إلى سوريا. زميله فادي يخبر عن سياسة كسر الأسعار التي يعتمدها لاستقطاب الزبائن، ففي هذه الأيام لا يمكن تحديد سعر، اذ أن الراكب عنيد «تكسر عينه بعشرين الفاً نزولاً، ولكن ليس اكثر من ذلك» اذ ان اسعار تصليح السيارات مرتفعة، فيكاد الواحد منهم يقترض الألف دولار من 10 اشخاص بمعدل مئة من كل جار وذلك لسد دين قطعة الغيار. يذكّر فادي ان لهذا السائق، مشيراً الى نفسه، مصروف ادوية، مستشفى، حكيم، فواتير كسائر المواطنين، لذا يفكر في بيع نمرته الأسبوع المقبل التي اشتراها بـ 17 الف دولار واليوم تساوي 7 آلاف دولار، والتي يمكن ان توفر عليه «ثمن حرق الاعصاب بالمستشفيات».
أحوال سائقي الباصات ليست أفضل حالاً، منير (سائق باص) توقف عن العمل على الخط، فتسعيرة العشرين الفاً لا يلتزم بها المواطنون معظم الوقت فيدفع بعضهم عشرة آلاف وربما أحيانا خمسة وعلى حد تعبير منير: «كل ما تغلى التسعيرة، الراكب يخفض في المبلغ». هكذا لا تكفي 3 نقليات في اليوم لتأمين صفيحتي مازوت. انتقل منير تدريجياً الى العمل في رحلات منظمة او مع شركات ومدارس، ومع ذلك وقع في خسارة لان مهمة تأمين المازوت عليه. يعلل جورج ( سائق باص على خط جبيل الدورة) انخفاض معدل العمل بسبب قلة العمالة الأجنبية من مصريين واثيوبيين ومختلف الجنسيات التي تركت لبنان بعد الأزمة، وكان الاتكال عليها أكثر من اللبنانيين. يشكو جورج من المشاكل على المحطات لتعبئة الوقود فهناك من يطلب الدولار ومن يطلب عمولة التي قد تصل الى نصف سعر التنكة او اقله مئة الف رشوة «على الماشي». قلل جورج تباعاً من الصولات والجولات، باعتبار ان المدخول سيكون أقل من تكلفة الجولات والتصليحات بعد الاستهلاك والتي ان زادت عن 3 ستكلف اكثر من 3 ملايين ليرة. جورج الذي لا يلتزم بموقف بلدية برج حمود ويفضل العمل الحر، لا يتقيد بأي عرف يضبط حركته.
النقابات تضغط… والحكومة نائمة!
وافق رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي مع أولياء قطاع النقل البري على حل في تشرين الأول من العام المنصرم، وكان من المفترض ان يبدأ التنفيذ في شهر 12، وكان الاتفاق ان تثبت التعرفة على العشرة آلاف ليرة للسرفيس وخمسة للباص. الا انه لم يتم السير به حكومياً. يسأل رئيس اتحاد النقل البري بسام طليس عبر «نداء الوطن» عن السبب بعدم السير بها؟ يربط طليس تفاقم الوضع الاقتصادي والتصاعد التدريجي لتعرفة النقل إضافة الى العوامل المساعدة بارتفاع سعر النفط عالميًا، ليكون بذلك الصراع محصوراً على حد توصيفه، على السعر بين المواطن والسائق، الذي هو مواطن «معتر» في نهاية المطاف، والذي يعاني مثله مثل أي موظف من أزمات الضمان وأزمات البلد ككل إضافة الى أزمات المهنة. لا يعترف بنظرية ان تعدد النقابات هو السبب لعدم التوصل الى حل، مشيراً الى ان ذلك دليل تنوع وليس شمولية في التعاطي، معيداً تصويب المسالة الى مكانها المناسب، الذي هو الحكومة التي لم تتخذ أي قرار في ما خص قطاع النقل. وتشير معلومات وردت الى «نداء الوطن» الى انه تم الاتفاق مؤخراً مع وزير الداخلية على التشديد برصد المخالفات في ما يتعلق بقطاع النقل من انتشار السائقين الأجانب، ونفاذ مواعيد الرخص.
عتب نقيب السائقين العموميين في الشمال شادي السيد كبير على وزارة الاقتصاد الغائبة عن السمع، فهي نقلاً عنه، لا تراقب محطات الوقود التي تطالب بمبالغ إضافية عن سعر تنكة الوقود المعتمد، لانهم يسعرون مسبقاً عن الغلاء القادم في الأيام المقبلة سائلاً: الى من نلجأ؟ هكذا اتى الحل بالنسبة الى القوى الاقتصادية مجتمعة زيادة بدل النقل، لكن هل تغير المسألة شيئا بالنسبة الى السائق الذي ينتظر راكباً صار لا يأتي وإن أتى يئن أيضاً تحت ضغط الغلاء وارتفاع بدل النقل.