عدّاد هجرة اللبنانيين: النزيف والفراغ الكبير
تختلف كل المعايير في بلاد تعيش مرحلة انهيار تام وشامل، يضرب عميقًا وعلى المستويات كافة. تختلف لأن الانهيار يكسر كل شيء، ولأنه يعيد الأشياء إلى وجودها الخام، فكأننا نشاهده للمرة الأولى ومن دون أي معطى مسبق ولا أي مساعدة. هو انهيار يفرض على الناس الشعور، في وقت من الأوقات، أو ربما كلها، بالحاجة إلى إعادة انتاج المعاني. بالحاجة إلى إعادة إنتاج، ولو نذرٍ يسير مما افتقدناه من صلات وخيالات وآمال خلال هذه الرحلة الطويلة من الشقاء ومن الموت المحدق.
تدخل الأعياد على اللبنانيين هذه السنة بالتوازي مع أرقام استثنائية في عدّاد الهجرة (ذكرت “الدولية للمعلومات” أن عدّاد المهاجرين من اللبنانيين واللبنانيات في السنتين الأخيرتين حتى كانون أول من عام 2022، أكثر من 107000 مواطن ومواطنة)، وفي عدّاد تفكك العائلات، وحتمًا في عدّاد النزيف المستمر للشباب والأصدقاء والرفاق والزملاء والأبناء والآباء.. عن البلاد. تنظر في لائحة الأصدقاء فتجد أن معظمهم ومعظمهن أصبحوا وأصبحن خارج البلاد، وأن البقية المتبقية لم تعد تتخطى، بأحسن الأحوال، أصابع اليدين، مع ما يعنيه ذلك من قضم مستمر للخيارات في هذا الوجود المحاصر. فالآخرين ليسوا مجرد أشخاص، هم احتمالات، احتمالاتنا، وهم خيارات، خياراتنا.
والأمر ليس على هذا القدر من البساطة، إنه تحديد لأفق وإغلاق لأبواب لطالما فُتحت في وجه الناس بأشكال متفاوتة ومختلفة. أن تنتقل من بديهية وجود الأصدقاء إلى بديهية عدم وجودهم. أن تفتقد أولئك المعينون في وقت الشدّة، رفاق الفساد والإفساد والكثير من التسكّع والضحك، هو ليس بالأمر العادي في حياة الناس، ليس مجرد تحصيل حاصل، ولا هو بالمعطى الذي يمر مرور الكرام من دون عميق أثر يُذكر.
الانهيار هو، فوق هذه وتلك، تفكك. إعادة فرط لعلاقات احتاجت سنوات ومجهود استثنائي لكي تنطلق أو تستمر، أو ربما لتتوقف. هو انصراف عن كل مجهود ومثابرة، واقع يضع في قلب كل أم غصة، وفي لمسة كل جد كسرة خاطر، وفي قلب أي عاشقة فراغ مستشرٍ، وفي مشاعر كل طفلة فراغ ممتد.
يتمدد كلام الانهيار ليحيط العائلة. وبالكلام عنها لا نبغي القول من منطلقات يمينية، على اعتبار أنها الوحدة الأولى اللازمة لكل اجتماع. بل نتكلم من منطلق نفسي محض، من منطلق عاطفي وإيثاري، مجاورة في المكان أو الزمان، لهفة، شعور من نقص وحاجة ما إلى الإحاطة بمن يهتم، وأحيانًا بمن لا يهتم. لنقل، إنه كلام عن حاجة لمجرد الإحاطة. إنه نزاع مستمر تُكتب آياته اليوم بشهيق وزفير مستمر، وإن بشكل متهدّج. نزاع للقول إننا هنا، ما زلنا نستطيع أن نجتمع بشكل من الأشكال، وأن نحتفظ بحقنا في القصة. فتجد أن معظمنا، في الداخل والخارج، نجتمع مع أقرب الناس إلينا، أو أحيانًا أبعدهم عنا، لنكوّن خارطة طريق ترسم ملامح اقتراب ما، ملامح هيكل شبيه بالصداقة، أو لربما العائلة، وإن كانت عائلة غير بيولوجية.
ها هنا رفاقًا تجمعوا في تلك السهرة، وفي دولة أخرى أصدقاء لم تربطهم في السابق أي صداقة أو استلطاف، كلهم اجتمعوا ليحيوا ليلة الميلاد. إنه نوع وشكل من أشكال المقاومة، ليس دفاعًا عن أي هدف، بقدر ما هي محاولة لخلق الهدفية ذاتها. هذه الأشكال من الحاجة إلى إحياء المناسبة الاجتماعية هو بالضرورة إعادة انتاج لها خارج مناسبتها، إنها إعادة انتاج اجتماعية القالب. فالمناسبات لم تعد بمعظمها مناسبات دينية، بل مجرد مناسبات، بمعزل عن العنوان العريض، بمعزل عن الصدفة، وبمعزل عن تاريخ التمايز الذي ينتجه الناس عمومًا، واللبنانيون خصوصًا، بمجرد وجودهم.
إنه إلزام، فرض منزلي، لربما واجب إضافي لأن نكون جاهدين في سيرورة إعادة انتاج قيم تنبني على نثر عاطفة، بأي شكل من أشكال العاطفة، بالحب والود والهدوء، ما دامت الغاية هي الناس.
يمر هذا العيد، وكل عيد، هذه السنة، وهناك كثرة من الأماكن والكراسي الشاغرة على كل طاولة، وفي كل غرفة معيشة ومطبخ. يصادف أحيانًا أن تجد كل الطاولة شاغرة، وذلك في حالة العائلات التي رحلت بأكملها عن هذه البلاد، عن هذا الانهيار. والفراغ في الأماكن يقابله فراغ في القلب، امتداد للبرود في المكان وفي الحس، فقدان تكثيف الدفء، فسحة تُفتَح اليوم بانتظار من يستطيع ملأها لاحقًا.. في حال صادفنا وجوده.