كتب نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي:
يدور نقاش حاد، وضروري، في الأوساط الاقتصادية والمالية والسياسية والشعبية حول خطة التعافي التي تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي.
وتنطوي الخطة على برنامج متكامل من الإصلاحات الاقتصادية والمالية يعالج الاختلالات الماكرو اقتصادية والهيكلية التي عصفت باقتصاد لبنان وقضت مرحلياً على نموِّه، ويرسم خارطة طريق لهذه الاصلاحات التي لا غنىً عنها ولا مفرّ من تنفيذها في السنوات المقبلة. فهذا البرنامج يتضمن معالجة المالية العامة واستدامه الدين، واصلاح مؤسسات القطاع العام وتصويب السياسة النقدية نحو أهدافها الاساسية وتوحيد سعر الصرف ودرء الشأن الاجتماعي ومكافحة الفقر، إضافةً إلى الموضوع الجوهري المتعلق بالحوكمة ومحاربة الفساد. ولكن النقاش يتركز بشكل خاص على خطة النهوض بالقطاع المصرفي لما لهذا الجانب من وقعٍ مصيري على مدخرات المودعين ومستوى معيشتهم. وللعلم فان هذه الخطة وضعت الخطوط العريضة ورسمت خارطة طريق ولكن ما زال العمل جارياً على بعض التفاصيل المهمة.
تستند خطة القطاع المصرفي على الأسس التالية:
أولا، الحفاظ (إلى أقصى الحدود) على حقوق المودعين وهم الحلقة الأضعف وهم غير مسؤولين عما آلت إليه الأوضاع وما حلَّ بأموالهم. فالمودعون ائتمنوا المصارفَ على مدّخراتهم وجنى عمرهم وقرشهم الأبيض الذي كان سيؤمن لهم حياة كريمة، وخاصة المتقاعدين منهم. ولا ننسى ايضاً أموال المؤسسات بما فيها رساميلها التشغيلية التي نتيجة تجميدها في المصارف قد تتوقف عن العمل ما يزيد من معدّلات البطالة وانكماش الاقتصاد.
ثانيا، تهدف الخطة الى تصحيح وضع القطاع المصرفي وإعادة رسملته وذلك للدور الاساسي لهذا القطاع في إطلاق العجلة الاقتصادية من خلال تمويل نشاط القطاع الخاص. فنحن نهدف إلى الحفاظ على هذا القطاع وتفعيل دوره علماً أن ذلك يتطلب عملية جراحية (قد تكون) موجعة في المدى القصير بهدف انقاذ القطاع ووضع الاقتصاد على السكة الصحيحة.
ثالثا، توصي الخطة على احترام تراتبية الحقوق والالتزام بها والتي تعني عدم المساس بحقوق المودعين قبل استنفاذ رأسمال المصارف، وهو يكوِّن خطّ الدفاع الأول عن الودائع. إني أدرك تماما القلق الذي يشعر به مساهمو المصارف من جراء ذلك، ولكن عندما تقع الكارثة يجب على الجميع أن يساهم في عملية الإنقاذ. فالقطاع المصرفي يعاني من أزمة غير مسبوقة في التاريخ الحديث تتمثل بوجود فجوة مالية تقدر بحوالي 70 مليار دولار (ما يفوق ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد) ناتجة عن سياسات مالية توسعية أدت الى مديونية عامة جد مرتفعة وسياسات نقدية تركزت على الحفاظ على سعر صرف ثابت مما أدى الى انخفاض كبير في الاحتياطات الأجنبية. أما من ناحية المصارف فكان هناك سوء تقدير للمخاطر من قبل من حيث توظيفات الودائع وتمركزها وان كنا ندرك انه في بعض الحالات لم يكن للمصارف كامل الخيار في هذا الخصوص.
ان هذه السياسات مجتمعة أدت لاحقاً الى ثلاث صدمات أساسية: تدهور سعر الصرف، إعادة هيكلة الدين، ما يتطلب تطبيق نفس الشروط على حاملي سندات اليورو بوند الأجانب كما على حاملي هذه السندات المحليين وهم المصارف، بالإضافة الى الخسائر المتأتية من تعثر بعض قروض القطاع الخاص. يجب معالجة هذه الخسائر بشكل جذري وبأسرع وقت ممكن. فكل يوم تأخير يعني زيادة في الخسائر مما سينعكس سلبا على القطاع المصرفي بشكل خاص وعلى الوضع الاقتصادي والنقدي بشكل عام.
اذن تقع مسؤولية الخسائر في القطاع المصرفي بالدرجة الأولى على البنك المركزي وعلى الحكومات المتعاقبة والمصارف. لذا يتضمن برنامج الإصلاح المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي اصدار سندات حكومية طويلة الأمد بقيمة 2.5 مليار لمصرف لبنان مع الإشارة بانه يمكن زيادة هذه المساهمة إذا كانت المحافظة على استدامة الدين تسمح بذلك. قد يبدو للوهلة الأولى ان مساهمة الدولة هي صغيرة بالمطلق، ولكنها مرتفعة بالنسبة لحجم الاقتصاد إذ هي تعادل حوالي 11% من الناتج الإجمالي. كما ان مساهمة مصرف لبنان والمصارف تقدر بحوالي 17 مليار دولار.
فاذا اخذنا بعين الاعتبار هذه المساهمات، ستبقى هناك فجوة كبيرة يجب معالجتها حتى يعود القطاع المصرفي ليمارس دوره الطبيعي في تمويل الحركة الاقتصادية لتحفيز النمو وخلق فرص عمل للعدد الكبير من الشباب اللبناني الذي يدخل سوق العمل كل سنة. هذه ليست مُجرَّد تحليلات وتكهنات، بل وقائع وحقائق يجب مواجهتها للخروج من الأزمة.
هناك موجة من الطروحات قيد التداول ومن كثرة تردادها أصبح يتماهى للبعض بأنها حقيقة. معظم هذه الطروحات تركز على استعمال أصول الدولة لإطفاء الخسائر. دعونا ننظر إلى هذا الموضوع بتجرد كامل وشفافية مطلقة. يعتري استعمال أصول الدولة لإطفاء الخسائر أربعة مشاكل أساسية:
أولا، أن حجمَ الفجوة المالية كبيرٌ جدا، ويقدَّر بحوالي 3.5 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. هذا يعني أن سد الفجوة المالية يوازي كل ما ينتجه الاقتصاد اللبناني من سلع وخدمات والناتج عن جهد جميع اللبنانيين على مدى ثلاث سنوات ونصف. ولنسلم جدلاً بأنه يمكن استثمار جميع أصول الدولة والتي تتراوح قيمتها بين عشرة وعشرين مليار دولار واستعمال عوائد هذا الاستثمار لتغطية الخسائر فسيستغرق ذلك أمداً طويلاً من الزمن. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا استثمرنا 20 مليار دولار بعائد سنوي يساوي 5% فهذا يعني ان مردود الاستثمار لن يتجاوز المليار دولار سنويا. ولنفرض إضافةٍ اننا سنستعمل هذا العائد حصراً، وهذا غير ممكن ولا هو منطقي، لمعالجة الخسائر، فسوف يتطلّب حوالي سبعين عاماٍ هذا إذا لم نحتسب قيمة الوقت. وفي هذا الإطار يجب أن ندرك أن معظم أصول الدولة هي حالياً غير منتجة ومتعثرة وذلك يعني أنه يجب الاستثمار وضخّ الأموال فيها قبل أن تأتي باي مردود يذكر، ما سيجعل معالجة الفجوة المالية أكثر صعوبة. وفي هذا الإطار فأننا نرى ان انشاء صندوق سيادي بهدف تحسين إدارة أصول و مؤسسات الدولة قد يكون ضرورة لزيادة عائداتها غير ان ذلك موضوع منفصل عن معالجة خسائر القطاع المصرفي.
ثانيا، ومع الاعتراف الكامل بحقوق المودعين الكاملة وغير المشروطة بوديعتهم فالسؤال يبقى هل يجب استعمال هذه العوائد للتعويض على المصارف وعدد محدود من المودعين؟ أن استعمال هذه العائدات سيحرم الخزينة من موارد هي بأشد الحاجة إليها وخاصة بعد أن وصلت أجور العاملين في القطاع العام إلى مستويات جد متدنية أثّرت بشكل كبير على الخدمات العامة ونوعيتها. فهل من المعقول أو المقبول أن نأخذ من جيب جندي او عنصر قوى أمن أو مدرِّس آو عامل بلدي، ونحرم القطاعات الاجتماعية من صحة وتربية لنعوض عن خسائر عدد محدود من المودعين على أحقيتهم؟ وإذا لم تتوفّر هذه الموارد للمالية العامة فهذا يعني أن الدولة ستلجأ اما إلى الاقتراض وإلى تفاقم الأوضاع المالية وتزايد الدين العام سيما وأن هذا الدين هو أحد الأسباب الأساسية للأزمة الحالية، أو الى عصر النفقات بشكل كبير والذي سيؤدي الى انهيار الخدمات العامة، أو بزيادة الضرائب الى مستويات مرتفعة مما سينعكس في تدهور الأوضاع الاقتصادية وضغط على سعر الصرف وبالتالي على مستوى معيشة جميع اللبنانيين.
ثالثا، وبحسب تقديراتنا الحالية يمكننا ان نحافظ على مجمل الودائع إلى حدّ المئة ألف دولار امريكي ما يضمن كامل حقوق 88% من المودعين، وهو مبلغ معرَّض للتناقص كلما تأخرنا بالإصلاحات. ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أننا لا نهتم بما تبقى من ال 12% الاخرين، فمدخرات هؤلاء المودعين هو جنى عمرهم والبعض منهم استثمر في لبنان وخلق فرص عمل، ومن الواجب المحافظة على حقوقهم. فنحن بصدد نقاش دائم لمحاوله استرجاع معظم هذه الودائع، ولكن في نفس الوقت لا يُمكن أن نحرم الغالبية العظمى من اللبنانيين من خدمات هم بأشد الحاجة إليها لصالح 3% من اللبنانيين.
رابعا، هناك تمركز للثروة بشكل كبير ضمن الثلاثة بالمائة حيث يستحوذ خمسة الاف حساب مصرفي (تمثِّل أقلّ من ٠،٣٪ من مجموع الحسابات) على ما يفوق الثلاثين مليار دولار، وهو 30% من مجمل الودائع أو نصف المبالغ التي تفوق المئة ألف دولار والمقدرة بـ65 مليار دولار. وهذا يعنى ان نصف الموارد المتأتية من استثمار أصول الدولة ستذهب إلى 5000 حساب فقط مما لذلك من أثر اجتماعي يخالف ابسط قواعد العدالة الاجتماعية. ولكل هذه الأسباب لديَّ القناعة واليقين انه ليس من المنطقي والمحق أن نلجأ إلى اصول الدولة لمعالجة خسائر القطاع المصرفي. ولكن ما يجب العمل عليه بجدية مطلقه من قبل مجلس النواب هو استرداد الأموال المنهوبة وتلك المحولة الى الخارج بعد تشرين الأول 2019 نظرا لاستنسابية هذه الاخيرة مما سيساعد في استرجاع الودائع بوقت أسرع ويقلل من أي خسارة قد تقع على المودعين.
أخيراً، ونظرا لحساسية هذه المسألة واثارها الاقتصادية والمالية والاجتماعية، فأي قرار يتخذ في هذا الخصوص يجب أن يخضع لنقاش جدي وهادئ بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني. فالاتفاق الذي توصل اليه الفريق المفاوض مع صندوق النقد الدولي، هو مبني على تحليل اقتصادي وتقني وبموافقة ضمنية من كبار مانحي المجتمع الدولي، قد اقر من قبل مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 20 أيار 2022. ومع ذلك فان قراراً كهذا يجب أن يؤخذ على الصعيد الوطني المتمثل بجميع القوى السياسية المنبثق عنها مجلس النواب – وليس من قبل مسؤول، أو من قبل لجنة تفاوض، او حتى من قبل الحكومة.
ولكن إذا تعذر الاتفاق بين الكتل السياسية على هذا الموضوع الذي لم يدخل بشكلٍ واضح في صلب برامج المرشحين للانتخابات النيابية الأخيرة، فانه من الافضل ان يتخذ هذا القرار على صعيد الشعب اللبناني من خلال استفتاء وطني ينحصر بالتحديد بإمكان استعمال الأصول العامة للتعويض على المصارف وعلى المودعين الكبار. أن بعض الدول المتقدمة تلجأ إلى استفتاءات شعبية حول مواضيع أقل أهمية بكثير من الاوضاع الاساسية والشديدة التعقيد التي يعيشها لبنان، فكيف بالحري إذا كان الموضوع يتعلق بمصير وطن.
Related