الأسواق الشعبيّة ملاذ الفقراء… والأغنياء!
كتب رامح حميّة في “الأخبار”:
«بعشرة آلاف ليرة… قرّب لهون». مرّات ومرّات تتكرّر العبارة نفسها عبر مكبّر صوت صغير عند بسطة ألبسة مستعملة، متداخلة مع صراخ صاحب بسطة أخرى «أيّ قطعة ولّادي بس بعشرين ألف يا بلاش… قرّب يا بو العَيْلة». تفلح النداءات المتكرّرة، والنبرات العالية التي تصل إلى حد الصراخ للإعلان عن البضاعة، في جذب واستقطاب كلّ من يدخل السوق الشعبي في بلدة بيت شاما.
تتهافت النسوة على إحدى البسطات المخصّصة للألبسة. تقلّب سيدة ستينية القمصان بحثاً عن لون ومقاس يناسب زوجها الذي يقف بجانبها. غير بعيد عنها، يحاول رجل تجربة حذاء لابنته ذات العشر سنوات. وبينهما، تسمع سيدة تخبر ابنها «انت لقينالك بنطلون وجاكيت، بعد في إخوتك»، أو رجل يساعد زوجته في التفتيش عن «فردة كلسات أو حذاء».
«مول» صغير
تتنوّع البسطات في السوق الشعبي في بيت شاما، كما سائر الأسواق، حيث «كلّ ما تطلبه موجود». الأسعار المتدنية تستقطب الجميع في الأسواق الشعبية التي تلقى حالياً، وأكثر من أي وقت مضى، إقبالاً لافتاً جاء كنتيجة حتمية لارتفاع أسعار السلع، ولما خلّفته الأزمات المالية والاقتصادية من تدنٍّ في القدرات الشرائية لدى سائر شرائح المجتمع اللبناني. هكذا باتت الأسواق الشعبية أشبه بـ«مول» صغير. على أكثر من عشرين دونماً فُرشت البضاعة المتنوّعة على ألواح خشبية، مسندة بدلاء بلاستيكية أو طاولات، فيما كُوّم بعضها على الأرض فوق أكياس خيش. هنا ألبسة متنوعة وأحذية، وهناك سجاد وفرش اسفنج وأقمشه مختلفة. بسطات خضر وفاكهة، وحلويات وحتى سندويشات فلافل. ولا يخلو الأمر من بسطات للبزورات والكعك والبهارات والزيتون، بالإضافة إلى قطع مستعملة من الـ«أنتيكا» والأثريات والأكسسوارات والمعدّات الخاصة بالمنازل من مكانس كهربائيه ومكاوٍ وغيرها من الخرضوات.
«الأسواق الشعبية تشكل الملاذ الأرخص، ليس فقط بالنسبة إلى الناس الفقراء وإنما للأثرياء أيضاً»، يقول محمد (العسكري في الجيش اللبناني) وهو يبحث عن حذاء لابنه، «هنا لا يزال ممكناً شراء حذاء بسعر مقبول يتراوح بين 100 و300 ألف ليرة لبناني، فيما نحلم بأن نجده خارج السوق بأقلّ من 10 دولارات.. حتى في محالّ البالة صاروا يحكون بالعشرة والـ 15 دولاراً» يقول.
سارة، ابنة بلدة بدنايل، تنتقي من إحدى البسطات كنزات نسائية. تقصد أكثر من سوق شعبي، في بيت شاما وقصرنبا وحوش العرب، «ماذا سنفعل؟ عليك أن تفتش حتى تجد طلبك من ألبسة وأحذية لكلّ أفراد العائلة، هذه الأسواق بعدها رحمة… أين يمكن أن تجد بنطلوناً بـ 50 ألف ليرة، أو جاكيت بسعر 100 ألف أو 300 ألف؟».
في المقابل، ثمة من يقصد هذه الأسواق بحثاً عن أشياء مميزة، كما يفعل أحمد الموظف في الضمان الاجتماعي، الذي يشير إلى أنّه يقصد الأسواق بحثاً عن قطع أنتيكا قديمة وزجاجيات من الكريستال «دائماً أتوفق بقطع مميزة وأسعارها زهيدة. منها صندوق خشبي تراثي قديم، وبيك آب للموسيقى، وعدة كؤوس زجاجية فرنسية، وهي أشياء لا يمكن أن تحصل عليها خارج الأسواق الشعبية بمئات الدولارات».
روزنامة أسبوعية
أدى الإقبال على الأسواق الشعبية إلى توسّع الدائرة الجغرافية والزمنية لها، وبات لها روزنامة أسبوعية يعتمدها أبناء البقاع بأكمله، تبدأ يوم الاثنين في بلدة المرج، وهو من أشهر الأسواق وأقدمها، وتنتقل الثلاثاء إلى سعدنايل وبيت شاما، والأربعاء إلى بعلبك، والخميس إلى علي النهري ورياق، والجمعة في قصرنبا والفيضة، والسبت في بعلبك، والأحد في حوش العرب.
وحدها وجوه الباعة لا تتغيّر في كلّ هذه الأسواق، حيث يتنقلون ببضائعهم من سوق إلى سوق. يوضح علي عثمان، صاحب محالّ تجارية في مدينة بعلبك، وصاحب بسطة في سوق بعلبك الشعبي، أنّ الاختلاف في الأسعار يكمن في «نوعية البضاعة وجودتها، فالألبسة والأحذية الأوروبية المستعملة تتدرّج نوعيتها من الباب الأول إلى الباب العاشر، وكلّ بضاعة لها سعر، حتى إنّ تجار الجملة للألبسة والأحذية الأوروبية المستعملة في بيروت أو طرابلس يبيعونها بالدولار نظراً إلى ارتفاع الدولار الجمركي، وكلّ تاجر يعرف زبائنه ومتطلّباتهم. يوجد بضاعة البنطلون فيها بـ 10 دولارات، وأخرى البنطلون بدولار واحد».
أبو أيهم، تاجر سوري وصاحب بسطة، يشير إلى أن أنواع البضاعة تختلف «بحسب اختيار كل تاجر، ولذلك ترى تجاراً يبيعون بأسعار مرتفعة أحياناً، ومن ثم يكسرون السعر ويبيعونها على الكيلو، ويصبح سعر القميص الولادي بعشرة آلاف ليرة، فيما لا يقلّ سعر القميص باب أول عن 5 دولارات».
محمد الأحمد، صاحب بسطة متنقلة من الخرضوات المستعملة، يلفت إلى أنه يشتري بضاعته من تجار آخرين ويبيعها بربح لا يتعدى الخمسين ألف ليرة على مبدأ «بيع كثيراً واربح قليل». تاجر ألبسة آخر في سوق بعلبك يبيع أي قطعة بعشرة آلاف ليرة، يؤكد لـ«الأخبار» أن التجار أنفسهم يريدون الأرباح السريعة والكبيرة، ويفرضون أسعارهم، الأمر الذي يدفعنا إلى البيع بسعر أعلى عند فتح البالات، ومن ثم نعمد إلى بيع ما يتبقى منها أثناء التجوال ما بين الأسواق في البلدات، ونتصرّف به كنوع من الكسر الذي يستخدمه البعض بوصفه خرقاً بالية مثلاً».