إقتصادمحليات

بيروت سادس أغلى مدينة عربية

لا عجب أن تكون بيروت قد حلّت في مرتبة متدنية بالنسبة إلى كلفة المعيشة ونوعية الحياة فيها.

خلال الأعوام الاخيرة، بات تصنيف لبنان في أدنى المستويات، نظرا إلى الأزمات المتلاحقة والسريعة، اقتصاديا وسياسيا. ولعلّ الثبات الوحيد الذي تحقق خلال هذه الفترة، كان حفاظ بيروت على موقعها المتدني.

في آخر إحصاءات لموقع “نامبيو للإحصاءات”، صدر مؤشّر نوعيّة الحياة لمنتصف العام 2024، صَنَّفَ فيه 178 مدينة حول العالم استناداً إلى نتائج المؤشّر، وأتت بيروت سادس أغلى مدينة عربيّة في مؤشّر كلفة المعيشة، محتلّةً بذلك المرتبة الـ171 في العالم!

فما هي مفاعيل هذا المؤشر الذي لا يزال يحافظ على مستوياته المتدنية؟ والأهم، ما هي المعايير التي يتم الاستناد إليها في التصنيف؟

ينطلق عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الاميركية للتكنولوجيا الخبير الاقتصادي بيار خوري في قراءته لـ”النهار” من أن “هذا التصنيف وفقا لموقع “نامبيو” يعتبر مؤشرا مرجعيا أفضل من مؤشر أسعار المستهلك في لبنان، لأن الأخير يعتمد على الحاجات الأساسية فقط، وليس على صورة متنوعة وشاملة من الأنماط المتعددة للاستهلاك، وبالتالي قد يكون مؤشر “نامبيو” يمتلك من الواقعية أكثر مما يملكه مؤشر أسعار الاستهلاك عندنا. من هنا أهمية قراءته بعناية”.

ويرى خوري ان هذا “المؤشر قد يكون مفاجئا انما يمكن تفسيره. هو مفاجىء لبلد ينتج سنويا اقل من 20 مليار دولار، ثم يأتي، في التصنيف بعد المدن العربية الغنية، التي يمكن ان يكون مؤشر الغلاء فيها يعبرّ عن قوة الطلب”.

من المعلوم ان موقع “نامبيو” يعتمد في تصنيفه على مؤشرات عدة. وقد حلّت بيروت أخيرا، في موقع متدن مقارنة بقائمة المدن العربية والعالمية في مؤشر “نوعية الحياة”، إلا أنه سُجل “بعض التقدم الطفيف في كلفة المعيشة والقدرات الشرائية فيها وبدلات الإيجارات السكنية، قابله فشل في تحقيق أي تحسّن في بنود أخرى مهمة، مثل الأمان والتلوث والرعاية الصحية”.

والسؤال، ما هي المعايير المعتمدة؟

يرتكز التصنيف على 8 مؤشرات فرعية تتولى مؤسسة “نامبيو للإحصاءات” الدولية إعداده دورياً، مرتين في سنة واحدة. ويتطلب التصنيف الجيد في قياسات الترتيب المعتمدة وفق المعايير الدولية، تسجيل علامات مرتفعة في البنود الآتية: القدرة الشرائية، الأمان، الرعاية الصحية، والمناخ، فيما يتوجب الحصول على علامات منخفضة في بنود كلفة المعيشة، ومعدل سعر المنزل تبعا للدخل الذي يعكس القدرة على تحمل كلفة السكن، وحركة المرور، والوقت المطلوب للتنقل، فضلا عن مستويات التلوث.

استنادا إلى هذه المؤشرات، برزت بيروت سادس أغلى مدينة عربية لدى مقارنة مستوى الأسعار فيها بمثيلاتها، لا سيما مدينة نيويورك.

وتبيّن أن كلفة العيش في بيروت أقلّ بنحو 55 في المئة منها في مدينة نيويورك، التي يجري اعتمادها مرجعية عالمية للقياس النسبي. وسجّلت بيروت أيضا نتيجة 16.9 في مؤشّر أسعار الإيجار السكني، ما يعني أنّ أسعار الإيجار فيها أقلّ كلفة منها في مدينة نيويورك بنسبة تصل إلى 83 في المئة.

وبلغ مؤشّر أسعار السلع 34 نقطة، أيّ أنّ أسعار السلع في العاصمة اللبنانية أقلّ كلفة بنسبة 66 في المئة منها في نيويورك، وسجلّ مؤشّر القدرة الشرائيّة 20.5 نقطة فقط، أي أقلّ بنسبة 79.5 في المئة من تلك المسجلة في مدينة نيويورك.

ما هي المفاعيل الاقتصادية – الاجتماعية لهذه الأرقام؟

يجيب خوري: “في لبنان باتت إعادة تجديد رأس المال البشري مرتفعة جدا، إذ إن مداخيل 70 في المئة من السكان تكاد لا تكفي الحاجات المباشرة، لذلك، ثمة مشكلة في الرعاية الصحية وفي نفقات التعليم والتطوير والرفاء، والتي باتت جزءا أساسيا في تجديد الصحة النفسية للإنسان. ويا للأسف، كل هذه الحقوق مهملة اليوم. أضف إلى ذلك أن في لبنان فقرا متعدد البعد، لا يتوقف على المداخيل والمصاريف فقط، وهو ما يعتبر أكبر مؤشر لإحداث فجوة مستقبلية في التعليم وأزمة صحية قد تفرض نفسها على البلد”.

انما، هل التصنيف “السيء” و”الثابت” نسبيا لم يتبدّل خلال الاعوام الاخيرة؟

مقارنة بتصنيفات سابقة وللموقع نفسه، يتبين ان مؤشّر كلفة المعيشة في بيروت زادت في الفترة الممتدّة بين منتصف العام 2019 ومنتصف العام 2022، قبل أن تعود للانخفاض بين منتصف العام 2023 ومنتصف الـ2024.

والسبب يعود بالطبع الى الارتفاع السنوي في مؤشّر غلاء المعيشة وفداحة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجتها الأزمة الاقتصاديّة والماليّة، وما سببّته من غلاء كبير وقياسي، وخصوصاً بالنسبة الى التدهور الدراماتيكي الذي تخطى نسبة 98 في المئة في سعر صرف الليرة مقابل الدولار.

في الوقت نفسه، ونتيجة “للدولرة” التي سيطرت في الاسواق اللبنانية اخيرا، تبين ايضا ان مؤشّر “القدرة الشرائيّة المحليّة” تحسّن من 11.7 نقطة في منتصف العام 2022 إلى 12.3 نقطة في منتصف العام 2023، ومن ثمّ إلى 20.5 في منتصف عام 2024، مما يعكس بعض “التقدم الطفيف” في كلفة المعيشة والقدرة الشرائية، لكنه ليس بالتقدم الذي يعوّل عليه في مسار التعافي الاقتصادي – المالي السليم.

يعلق خوري: “وجود لبنان في هذا التصنيف سببه الأساسي أن في اقتصادنا كمية مال أكبر من كمية الإنتاج. صحيح أن جزءا من مصروفه يأتي من تحويلات المغتربين، ولكنْ ثمة جزء آخر لا نعرف من أين يأتي. في لبنان كمية هائلة من الأموال، إنما قلة قليلة منها موجودة في إيدي اللبنانيين، أي أن الفتات يتوزع على بقية الشعب، مقابل كميات أموال كبيرة وخطيرة”.

ويتدارك: “المغتربون لا يغطون فقط هذه الفجوة، ولبنان عاد بلدا استهلاكيا من الطراز الأول، بدليل أن حجم الاستيراد فيه يراوح بين 17 و19 مليار دولار، فيما الإنتاج يصل إلى ما تحت الـ 20 مليارا، والسؤال: من يغطي هذه الفجوة؟ من الواضح أن لدينا مالا لا يأتي من أي إنتاج، بل من الاستهلاك. كل ذلك، ماذا يؤثر على الاقتصاد؟ إن قدرة الإنفاق أكبر من القدرة على الإنتاج، وهذا ما يفسر التضخم وغلاء الأسعار. فضلا عن التضخم العالمي نتيجة الأزمات في بعض الدول، والتي تنعكس علينا كدولة مستوردة، ولاسيما إذا أضفنا إليها عناصر داخلية بفعل أزماتنا المحلية، كل ذلك يؤدي إلى هذا التصنيف، أي أننا في أعلى مؤشرات أسعار المنطقة مقابل مدخول منخفض جدا لغالبية السكان”.

في الأساس، إذا أردنا الخروج من هذه الدوامة، لا بد من “تصليح البلد وإصلاحه”، وذلك يبدأ، وفق خوري، “من ورشة في القطاع العام، وورشة لإصلاح النظام المصرفي، فضلا عن ورش تشريعية من أجل اقتصاد شفاف. فلنبدأ من هنا، ولتكرّ سبحة الحلول الاقتصادية والسياسية. عندها، يتم تشجيع الرساميل تلقائيا ويعلو الإنتاج”.

هذه أولويات التعافي… لمن أراد أن يسمع!

النهار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى