محليات

إرتفاع مفرط للأسعار منذ العام 2019 والأمن الغذائي في خطر

السوق اللبناني هو سوق احتكاري بامتياز وهذا أمرٌ مُثبت بالعلم والأرقام. وإذا كان تعريف الاحتكار يتمثّل بقدرة شركة أو عدة شركات على التأثير في الأسعار وهو أمرٌ صعب قياسه بالمباشر، إلا أن ليونة الأسعار صعودًا ونزولًا تُشكّل المؤشر الأكثر واقعية لما هو الاحتكار.

وبما أن الأسعار في لبنان ترتفع ولا تنخفض – وهو ما يعني أن هيكلية الأسعار لا تحوي أي ليونة – فهذا يشير إلى سوق احتكاري بامتياز. أما الادعاءات بأن اقتصادنا حرّ فهو إدعاء غير صحيح لأنه موجود على الورق فقط! فهيكلية السوق تشير إلى إن قلّة قليلة من اللاعبين الاقتصاديين يضعون يدهم على السوق بما يشكّل oligopoly يأخذ شكل جمعيات أو نقابات أو غيرها من التسميات.

ارتفاع الأسعار في لبنان شهد عدّة مراحل منذ بدء الاحتجاجات في تشرين من العام 2019. الأسعار بدأت بالتفلّت مع إعلان الدولة تخلّفها عن سدّ ديونها حيث إن تراجع الليرة مُقابل الدولار الأميركي أدّى إلى رفع الأسعار بشكل غير منطقي وغير قانوني مع اعتماد مبدأ الـ Replacement Cost ومن ثمّ مبدأ الـ Expected Cost وكلها مبادئ من اختراع شركات وتجّار استفادوا من دعم لم يصل منه للبنانيين إلا القلّة القليلة. وبعد انتهاء الدعم ارتفعت الأسعار بحجّة انتهاء الدعم لندخل مرحلة الدولرة والوعود بأن الأسعار ستستقر بعد الدولرة وهو أمر لم يحصل!

الحرب الروسية – الأوكرانية رفعت الأسعار في الأشهر الأولى من العام 2022، لكن هذه الأسعار ما لبثت أن انخفضت وحقق مؤشر الفاو انخفاضًا كبيرًا ما بين نيسان 2022 ونيسان 2023 في حين أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت في لبنان في الفترة نفسها!

الارتفاع الأكبر في الأسعار تحقّق في العام 2023 مع ظهور قمتين واحدة في الفصل الأول من العام والثانية في الفصل الرابع من العام (أنظر إلى الرسم البياني). في كل مرّة كان هناك حجّج وأسباب منها ما هو مُحقّ ومنها ما هو غير مُحقّ!

هناك خمسة أسباب خلف ارتفاع الأسعار:

أولًا – إنهيار سعر صرف الليرة مُقابل الدولار في الأعوام الأولى من الأزمة ولكن هذا العامل اندثر بعد دولرة التعاملات التجارية؛

ثانيًا – الأزمة الروسية – الأوكرانية والتي كان لها تأثير فقط في الأشهر الأولى من العام 2022؛

ثالثًا – الحرب الطاحنة في غزّة وعلى الحدود الجنوبية حيث ان انخراط الحوثيين في الحرب أدّى إلى رفع أسعار الشحن التي تمرّ عبر باب المندب وهو ما يغطي فترة ما بعد تشرين الأول 2023؛

رابعًا – التهريب الذي حصل بشكل كبير في مرحلة الدعم والذي خفّ وهجه مع النزوح السوري إلى لبنان ووقف الدعم؛
خامسًا – غياب الرقابة وجشع بعض التجّار الذين كانوا (وما زالوا) يرفعون الأسعار عن غير وجه حق. هذا العامل هو الأكثر تأثيرًا في هيكلية الأسعار. ولو كنّا في سوق حرّة فعلًا لاندثر هذا العامل.

الحكومة التي من المفروض أن أولى مهامها السهر على استقرار الأسعار وتأمين الوظائف، تمّ قصف جبهتها من إدارة الإحصاء المركزي ومن البنك الدولي حيث ان إدارة الإحصاء المركزي أبرزت أخر أرقام التضخّم والذي يُبين فشل العمل الحكومي في لجم الأسعار. أمّا البنك الدولي فقد قصف جبهة الحكومة من باب البطالة.

يبقى مصدر الارتفاع الأكبر للأسعار، بحسب إدارة الإحصاء المركزي، من قطاع المواد الغذائية والتي هي بمعظمها مستوردة. وكان الأجدى بالحكومة تشجيع بناء مصانع غذائية وتشجيع الزراعة لأكثر المنتجات الغذائية استهلاكًا وذلك من باب التحفيز الضريبي ولكن أيضًا من باب تقديم المساعدات العينية مثل الأرض وغيرها. فمثلًا ماذا لو تمّ تقديم واحد في المئة (كمُعدّل عام) من أراضي كل بلدية لبناء مصانع و/أو زراعتها منذ العام 2020؟ ألم نكن الآن في وضع أفضل في ما يخصّ الأمن الغذائي؟

إن الفوضى الاقتصادية القائمة حاليًا تُهدّد الوجود اللبناني بكل أبعاده الاجتماعية والديموغرافية والاقتصادية. فالتضخّم الحاصل هو مثل مرض السرطان كلما تغلّغل في الاقتصاد زادت صعوبة التخلّص منه. أضف إلى ذلك الفوضى المُتمثّلة بالاقتصاد النقدي والتي تهدّد مصداقية لبنان وعلاقاته التجارية مع الخارج والتي من الواضح أن لا قدرة ولا نيّة حاليًا للجمها.

وما يُصعّب الأمر أكثر هو أن هناك طبقة من اللبنانيين تستفيد من الأزمة وتحتكر الثروات بشكل يجّعل أكثر من ثلثي الشعب اللبناني يعيشون في ظروف معيشية صعبة. آن الأوان لتحفيز الاقتصاد الرسمي وإعادة تفعيل/هيكلية القطاع المصرفي ومحاربة اقتصاد الكاش والتهريب والتهرّب الضريبي وإعادة هيكلة القطاع العام وبناء دولة المؤسسات لا تكون فيها المحسوبيات والزبائنية هي الممر للاستفادة من خدمات الدولة ومراعاتها لمواطنيها.

التأخر في إجراء الإصلاحات يُقرّبنا أكثر من وضع فنزويلا حيث التضخّم وغياب الأمن والوقوف ساعات للحصول على بعض المواد الغذائية وانعدام القدرة على الوصول إلى الأسواق المالية العالمية (بحكم العقوبات الأميركية) … فهل يمكن اعتبار أن ما تمّ تنبؤه في العام 2019 من أن لبنان سيُصبح «فنزويلا الشرق الأوسط» هو على طريق التحقّق؟

على كل الأحوال هذه الحكومة غير خاضعة للمحاسبة من قبل المجلس النيابي وهي حلبة صراع بين القوى السياسية وبالتالي لا يمكن لومها. لذا ومن هذا المُنطلق، باعتقادنا فإن التركيبة الحالية للمجلس النيابي غير قادرة لا من قريب ولا من بعيد على تشكيل حكومة وإقرار إصلاحات اقتصادية وإدارية وقضائية ومالية… من هذا المُنطلق، يُجبرنا هذا التحليل على القول إن هناك احتمالين يتقدّمان على غيرهما (Probability Estimates): الاحتمال الأول وينصّ على استمرار الوضع على ما هو عليه حتى انتهاء ولاية المجلس النيابي الحالي مع استمرار التآكل الاقتصادي والاجتماعي. والثاني وينصّ على إجراء انتخابات نيابية مبكرة. وفي ظل السيناريو الثاني من الضروري إخراج أكثرية نيابية لها تصوّر اقتصادي واضح يسمح للبنان بالخروج من أزمته بأقلّ الأضرار الممكنة.

جاسم عجاقة- “الديار”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى