سببان للتخوّف من انفلاتٍ في جنوب لبنان!
ليس اغتيال إسرائيل لرضى موسوي أحد كبار رجالات “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني في محيط دمشق سوى دليل على مدى استعدادها للذهاب بعيداً في المعركة المصيريّة التي تواجهها. تخوض إسرائيل حالياً معركة حياة أو موت. لم تعد الدولة العبريّة القوّة العسكريّة القادرة على عمل ما تشاء في المنطقة كلّها من دون قيود فرضها عليها وضعها الداخلي.
بكلام أوضح، فقدت إسرائيل هيبتها ولن تكون قادرة، مهما فعلت، على تجاهل وجود قضيّة فلسطينية يعبّر عنها وجود ملايين الفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي وفي قطاع غزّة وفي الضفّة الغربيّة. هؤلاء الفلسطينيون موجودون على أرض فلسطين. منهم من هو في الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة ويعيش تحت الاحتلال منذ عام 1967. ليس في الإمكان استمرار هذا الاحتلال، إلى الأبد، مهما فعل بنيامين نتانياهو وأعضاء حكومته وقادة أحزاب اليمين الإسرائيلي الذين يحاولون القفز فوق الواقعَين السياسي والعسكري… أو التحايل عليهما.
إسرائيل مستعدّة للجبهات المتعدّدة
يؤكّد القصف الإسرائيلي الذي استهدف موسوي المقيم منذ سنوات عدّة في سوريا استعداد الدولة العبريّة لخوض حرب على أكثر من جبهة بعدما استطاعت حركة “حماس” وضعها في مأزق لا تُحسد عليه. كشف هجوم “طوفان الأقصى” الذي شنّته “حماس” في السابع من تشرين الأوّل الماضي أنّ إسرائيل تمتلك نقاط ضعف كثيرة على الصعيدين الأمني والسياسي. كان صعباً تصوّر نجاح مقاتلي “حماس” في قتل هذا العدد من الإسرائيليين وأسر آخرين بهذه السهولة. بإختصار شديد، إنّ انكشاف إسرائيل على حقيقتها، من خلال استمرار حرب غزّة كلّ هذا الوقت، يجعلها أكثر خطورة من أيّ وقت. هذا ما يُفترض أن يتنبّه إليه لبنان الواقع تحت السيطرة الإيرانيّة… وحيث تدير “الجمهوريّة الإسلاميّة” انطلاقاً من جنوبه ما يشبه حرباً على نار خفيفة.
يؤكّد القصف الإسرائيلي الذي استهدف موسوي المقيم منذ سنوات عدّة في سوريا استعداد الدولة العبريّة لخوض حرب على أكثر من جبهة
يبدو أنّ إسرائيل ما قبل 7 تشرين الأوّل 2023 هي غير إسرائيل ما بعد ذلك اليوم. هذا ما يُفترض بلبنان استيعابه، خصوصاً أنّ حرب غزّة غيّرت نظرة إسرائيل إلى نفسها وغيّرت نظرة العالم إليها، بما في ذلك نظرة قسم كبير من الشعب الأميركي والشعوب الأوروبيّة. صار هذا القسم من الشعب الأميركي متعاطفاً مع الشعب الفلسطيني وبدأ يأخذ موقفاً من الممارسات الإسرائيلية في غزّة.
لكنّ ما لا بدّ من أخذه في الاعتبار أنّ مثل هذا التغيير لدى قسم من الشعب الأميركي وفي أوروبا لن يجد ترجمة على أرض الواقع. أكثر من ذلك، لا يمكن البناء على هذا التغيير نظراً إلى أن لا تحوُّل يُذكر في موقف الإدارة الأميركية في المدى المنظور. لا تزال إدارة جو بايدن منحازة لإسرائيل وما زالت تزوّدها الأسلحة والذخائر التي تطلبها. لا يمكن توقّع أيّ تحوُّل أميركي حقيقي في الأيام والأسابيع المقبلة. على العكس من ذلك، سيزداد الموقف الأميركي انحيازاً لإسرائيل مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في غضون أقلّ من أحد عشر شهراً. لا يمكن حتّى الرهان على موقف الرئيس جو بايدن من بنيامين نتانياهو الذي ليس موضع إعجاب لدى المقيم في البيت الأبيض.
إسرائيل تغيّرت
يشير تطوّر الأحداث إلى تغيير في العمق في إسرائيل بقي نتانياهو على رأس الحكومة أم لم يبقَ. ما سيبقى هو كلّ أنواع المخاوف الإسرائيليّة التي تجعل بلداً مثل لبنان في دائرة الخطر ما دام لا يوجد فيه من هو على استعداد للدفاع عن مصالح البلد ومصالح اللبنانيين… وما دام لبنان تحت الاحتلال الإيراني.
أكثر من أيّ وقت تزداد المخاوف من انفلات في جنوب لبنان. يعود ذلك إلى سببين، في أقلّ تقدير. أوّل السببين وجود مفاوضات أميركيّة – إيرانيّة مباشرة وغير مباشرة، خصوصاً في مسقط مع احتمال عقد صفقة سرّية بين الجانبين، وهي صفقة تستجيب لبعض المطالب الإيرانية. يوجد ثمن تريده إيران مكافأة على عدم توسيعها حرب غزّة. ثمّة استعداد أميركي لدفع بعض هذا الثمن في ظلّ اعتراض إسرائيلي على ذلك. يفسّر هذا الاعتراض استهداف رضى موسوي في مزرعة قرب دمشق بما يشير إلى هامش المناورة الواسع الذي تصرّ إسرائيل على امتلاكه بغضّ النظر عن مواقف الإدارة الأميركيّة ومدى اعتمادها عليها في كلّ المجالات.
أمّا السبب الثاني الذي يدعو إلى التخوّف من انفلات الوضع في جنوب لبنان والخروج عن قواعد الاشتباك، فهو يعود إلى أنّ حسابات إيران قد لا تكون في محلّها. صحيح أنّ إسرائيل منشغلة بحرب غزّة، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الواقع الذي لا يمكن تجاهله، يتمثّل في أنّ عشرات آلاف الإسرائيليين باتوا غير قادرين على العودة إلى بيوتهم في معظم المناطق القريبة من الحدود اللبنانيّة. هؤلاء يعيشون في مناطق أخرى آمنة في الداخل الإسرائيلي بعيداً عن الحدود مع لبنان بسبب مدافع “الحزب” وصواريخه ومسيَّراته. مثل هذا الوضع لا تستطيع إسرائيل تحمّله طويلاً نظراً إلى أنّه يشير إلى بداية النهاية بالنسبة إليها!
يظلّ أخطر ما في الأمر غياب أيّ مخرج سياسي من الوضع القائم حالياً الذي وُلد من “طوفان الأقصى”. دمّرت إسرائيل غزّة وحوّلتها إلى أرض طاردة لأهلها. تبدو إسرائيل مستعدّة لخوض حروب على جبهات أخرى بدليل اغتيالها لرضى موسوي. ثمّة إسرائيل مختلفة وُلدت من رحم “طوفان الأقصى”، وهي إسرائيل التي لا يمكن التكهّن بمدى خطورتها في ظلّ الإصرار على حرب غزّة من جهة وغياب إدارة أميركية مستعدّة لضبطها من جهة أخرى… أو تقديم خطة سلام تعالج من الآن مرحلة ما بعد غزّة.
خيرالله خيرالله – اساس ميديا