هل تُنجَز الصفقة بين واشنطن و”الحزب”؟
طوني عيسى – الجمهورية:
أكثر فأكثر، يتّضِح أنّ طرفي المواجهة في الجنوب، إسرائيل و»حزب الله»، يدركان حدود المناورة، ولذلك هما يلتزمان الضوابط. وعلى رغم التهديدات المكثفة التي يطلقها بنيامين نتنياهو وأركانه، يستبعد المتابعون سيناريو الجنون في لبنان، ويرجّحون سيناريو الصفقة. ولكن، أي صفقة؟
لا يريد «حزب الله» – وإيران وراءه – أن يترك «حماس» وحيدة «تدبّر رأسها» في غزة. ولكن، في المقابل، هو لا يريد أن يحرق نفسه من أجلها. فوحدة الساحات تعني إيران إذا كانت ستربح في هذه الساحات كلها، ولكن هي لا تعنيها إذا كانت الخسارة في ساحة معينة ستعمّم على الساحات كلها.
يقول الإسرائيليون إنهم سيواصلون الحرب على غزة، ولو اعترضَ الأميركيون. وهذا يؤكد التوقعات بأنّ الحرب ستستمر شهوراً على الأقل، وربما حتى نهاية عهد بايدن، أو حتى تحقيق الهدف الذي يرتجيه نتنياهو: إنهاك «حماس» وتدمير غزة وتهجير أهلها. وبعد ذلك، تنطلق مفاوضات يُراد منها مَنح مصر دوراً محورياً في الوضع المستقبلي للقطاع. وطبعاً، كل شيء له ثمنه.
تطمح طهران إلى أن يكون لها في غزة جزء من كعكة التسوية. لكن ذلك مرهون بقدرة «حماس» على فرض نفسها على الطاولة. فإذا خرجت الحركة من الضربة مُنهكة تماماً، فستكون في موقع ضعيف لا يخوّلها الجلوس مع كبار المفاوضين، وستُملى عليها التسويات. ولذلك، السؤال المطروح: هل ستضطر «حماس» إلى المطالبة بوقف القتال عند نقطة معينة، لتفاوض من الموقع الذي تحتفظ فيه ببعض قوتها؟ وهل ستتجاوب إسرائيل مع الطرح؟
أما في لبنان، فحليف إيران «حزب الله» يحتفظ بكامل قوته ويُمسك بمفاصل القرار الكبرى في السلطة. وهو لن يفرّط بهذا الموقع أو بالبلد الذي يديره. ولذلك، هو لن يمنح نتنياهو أي ذريعة ليكرر في لبنان ما يفعله في غزة.
ولذلك، أبقى «حزب الله» منطقة الحدود في منطقة وسطى بين اللاحرب واللاسلم. فهو أشعلَ النار لإشغال الجيش الإسرائيلي وإظهار استعداده لتطوير الوضع هناك عند الحاجة، لكنه لم يفتح باب المغامرات على مصراعيه.
في إسرائيل، هناك من يعتبر أن حدود تورّط «الحزب» في حرب غزة مقبول حتى الآن. ولكن، في المقابل، هناك أصوات تطالب باستغلال اللحظة السانحة وضرب «الحزب» بقسوة وإبعاده عن الحدود مسافة يمكن اعتبارها آمنة، وتجنّب خطأ التجاهل والإهمال الذي سمح بتعَملق «حماس» في غزة، حتى صارت قادرة على تنفيذ عمليات بحجم صدمة 7 تشرين الأول.
ويتبنّى نتنياهو ورفاقه في معسكر اليمين هذا الخيار. ولذلك، هم جديون في السعي إلى إبعاد «الحزب» عن المنطقة الحدودية، أي ما بدأوا يسمّونه «المنطقة العازلة». وفي الجغرافيا، هم يريدون تعويم القرار 1701، القاضي بإبعاد «حزب الله» إلى ما بعد خط الليطاني. ويعمل الأميركيون والفرنسيون على خط الوساطة لتنفيذ هذه الخطوة، بحيث يتولى الجيش اللبناني أمن هذه المنطقة، بالتنسيق مع «اليونيفيل»، بدور فرنسي فاعل، وبضمانة أميركية.
حتى اليوم، يرفض «الحزب» أي طرح من هذا النوع ويتمسّك بوجوده في المناطق المحاذية للحدود. ويرد الإسرائيليون بالتلويح بضربات مدمرة إلى حد يصعب تصوره. وعلى الأرجح، الطرفان يرفعان السقف في سياق المناورة سياسياً. وهذا ما يريد الأميركيون والفرنسيون استغلاله لتشجيع الطرفين على الجلوس إلى الطاولة. وهم يقومون بوساطة لإقناع «الحزب» بتنفيذ القرار 1701، لأنهم لا يستطيعون منع نتنياهو من تنفيذ ضرباته الجنونية في لبنان، إذا ما اتخذ القرار بذلك. وهو ما عملَ له عاموس هوكشتانين وجان إيف لودريان والوفد الأمني الرفيع، وربما يتولاه الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه، إذا زار بيروت في الأيام المقبلة.
الطرح الذي يتّفق عليه الأميركيون والفرنسيون، ويحظى بقبول إسرائيل، يقضي بوقف النار فوراً في الجنوب، وجلوس الجميع إلى طاولة مفاوضات يكون برنامجها انسحاب «الحزب» من جنوب الليطاني تنفيذاً للقرار 1701، وترسيم الحدود البرية. وثمة أفكار جاهزة في هذا الشأن تُرضي لبنان وإسرائيل، ومنها نشر قوات دولية في مزارع شبعا تتولى رعاية الأمن فيها إلى أن تتم معالجة الخلاف الجغرافي هناك، بين لبنان وسوريا.
لكنّ هواجس الضربة الإسرائيلية قد لا تكون كافية لدفع «الحزب» إلى مغادرة البقعة الحدودية، لأنه يعتبرها ورقة قوة في يده. ولذلك، لا بد من دفع الثمن المناسب له، في شكل ضمانات وامتيازات أمنية وسياسية.
أمنياً، يتردد أن الأميركيين والفرنسيين سيتكفّلون بالغطاء الكامل لمنع إسرائيل من القيام مستقبلاً بانتهاك الحدود اللبنانية وتنفيذ أي عملية عسكرية في الجنوب، براً أو بحراً أو جواً. وفي المقابل، قد يكون لـ«الحزب» حضور في المنطقة، لا في شكل عناصر مقاتلة، بل في شكل مراقبين. وهذا كافٍ لتمكينه من متابعة الوضع ميدانياً وتلقّي الإنذارات المبكرة.
وأما الثمن السياسي فقد بات واضحاً: مزيد من الضوء الأخضر لـ«الحزب» كي يزيد توسّعه في داخل السلطة ومؤسساتها. واليوم، في ظل فراغ المؤسسات وتعطيلها، هو سيحظى بموقع مميز في تسمية رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة المقبلة وحسم ملفات الشغور في المواقع العسكرية والأمنية والإدارية. أي، عملياً، مقابل الترسيم البري، سيتم الاعتراف لـ«الحزب» بمزيد من السيطرة على القرار المركزي، تماماً كما جرى عندما وافق على صفقة الترسيم البحري.
الصفقة بين واشنطن وطهران في لبنان، أي بين واشنطن و«حزب الله»، يبدو أنها تُطبخ على نار غزة، ويعمل الفرنسيون على تسهيلها. وسيكون الجميع مُجبراً على مباركتها، لأن لا خيار لأحد سوى القيام بذلك. ففي العلاقات بين الدول، المصلحة هي المعيار الوحيد. والمصلحة تكون دائماً مع الأقوياء أيّاً كانوا لا مع الضعفاء أيّاً كانوا.