محليات

المشكل العضويّ اللبناني: ليس بالتبن تُعلَف العقول

كتب عقل العويط

لبنان مشكلٌ عضويٌّ في السياسة، يُحَلّ بما بعد السياسة، وبما هو فوق السياسة، لكنْ من دون التنكّر للسياسة.
ليس أهوَن من تسليم لبنان، وتركه، بعد غسل اليدين منه. 
يمكن المرء في أسبوعٍ واحد (وإذا اضطرّته الظروف في نهارٍ واحد)، أنْ يحزم أمره وأمتعته ويغادر إلى مكانٍ آخر تحت الشمس، هربًا أو لجوءًا أو بطريقةٍ من الطرق، مفضِّلًا ذلك على الحياة الذليلة الراهنة فيه، بل شبه المستحيلة.
لا أسهل من ذلك على الورق، ونظريًّا، وافتراضيًّا. بل عمليًّا وواقعيًّا. فالكلّ يعرف أنّ تهشيل اللبنانيّين من لبنان سياسةٌ ناجحةٌ إلى حدٍّ بعيد، بدليل التهجير الموضوعيّ، الطوعيّ – القسريّ (أو التطهير). كما أنّ الكلّ بات يعرف أنّ العيش لم يعد يُستطاب في الجمهوريّة اللبنانيّة، للأسباب المعلومة وغير المعلومة. والمستحسن والأسهل، في ضوء ذلك، البحث عن سبيلٍ آخر للعيش.
لا أسهل ولا أهوَن أيضًا من الاقتتال على لبنان، أيًّا تكن الطرق والوسائل، ومهما تكن مشرّفة. فكيف إذا كانت دنيئةً!
لكنّ الكلّ يعرف أنّ لبنان لا يمكن أنْ يُحكَم بالطريقة التي يُدار فيها حاليًّا على إيقاع ترويكا الترهيب والفساد واللّاقانون، ولا بالطريقة الأسطوريّة والتسليعيّة التي كان يُدار فيها سابقًا، ولا بالغلبة، أو بالاستقواء الداخليّ، أو بالخارج، وبالسلاح، وبالسرقة، وبالعدد، ولا بالدين، ولا بقوّة الأمر الواقع، أيًّا يكن هذا الأمر الواقع.
يعترف الجميع بالاستعصاء السياسيّ في أشكاله وأنواعه كافّةً، لكنْ لا أحد من المتحكّمين برقبة لبنان يريد أنْ يستوعب موجبات هذا الاستعصاء ومترتّباته، للخروج منه، محتكمًا إلى العقل والمنطق والحكمة. 
الإسرائيليّ عدوّ، الأميركيّ لا ربّ له إلّا الدولار، الإيرانيّ محتلّ، السوريّ من الأساس لا يعترف بلبنان، الفرنسيّ بات سمسارًا من الدرجة الرخيصة، الاستيلاء المذهبيّ الدينيّ “شذوذ” عن لبنان، الآخرون – على اختلاف حججهم وأسبابهم ومصالحهم – ضاقوا ذرعًا باللبنانيّين، واللبنانيّون كلٌّ يريد لبنان على طريقته وبأسلوبه وحساباته. 
قلائل يفهمون لبنان بأنّه “حالة”. ويريدون هذه “الحالة” دولةً (بالسياسة) للحقّ والقانون والحرّيّة والمساواة والأنسنة فيه. هؤلاء، إذ يفهمون هذه الحقيقة اللبنانيّة الشائكة والمعقّدة، يجب – مهما كلّف الأمر – أنْ يجدوا تحت الشمس، في لبنان أوّلًا وأخيرًا (في خارجه أيضًا ولِم لا)، كتلةً تاريخيّة تقونن رحابتهم الفلسفيّة والروحيّة والكيانيّة والدستوريّة والقانونيّة والدولتيّة والإداريّة، وتشدّ أزرهم، في هذه المحنة الوجوديّة، صونًا لـ”شيءٍ” واقعيّ، حقيقيّ، ملموس، لا مثيل له بين الدول والكينونات الجيوسياسيّة.
هذا “الشيء” (لبنان) الذي لا دولة في العالم تُماثله على المستوى الكيانيّ، شكلًا ومضمونًا، فكرةً وفلسفةً، وواقعًا، ليس هو بـ”شيء”، بمعنى chose  بالفرنسيّة، thing  بالإنكليزيّة. 
هذا “الشيء” (لبنان) هو “حالة – كيانيّة” فحسب. 
عبثًا كلُّ صراعٍ على امتلاك هذه “الحالة – الكيانيّة”، أو إلغائها، أو ضمّها، أو قضمها، أو فرزها، أو بعثرتها، أو تجزيئها، أو محوها من الوجود. 
محكومةً كانت بالفشل كلّ المحاولات لمعاملة هذه “الحالة – الكيانيّة” كسائر الكيانات والدول. وستكون محكومةً بالفشل كلّ المحاولات والاحتمالات الموازية المستقبليّة.
“الحالة – الكيانيّة” هذه، هي أرضٌ جيوسياسيّة – تكوينيّة – إنسانيّة “تحتاااااااج” إلى “تحريرها” من كلّ ربقة، وإلى “رفع اليد عنها”، كما تحتاج إلى “قوننتها” في الداخل دولتيًّا ودستوريًّا وقانونيًّا (أي بالسياسة)، وفي الخارج أمميًّا، بما يدرأ كينونتها، ويصونها، ويحفظها من تقلبّات الأزمنة والأحوال، ومن التبدلّات الجيوسياسيّة. 
انتخاب رئيسٍ يمثّل ضرورةً دستوريّةً مطلقة، وهو خطوةٌ أوّليّةٌ لا بدّ منها، بالتوازي مع التفكّر في مسألة “الحالة – الكيانيّة”، أو بمعزلٍ عنه.
في كلّ الأحوال، ليس أهوَنَ من تسليم هذا “الشيء” (لبنان)، وتركه، بعد غسل اليدين منه. 
ليس أهوَن من الاقتتال على لبنان، ومن جعل هذه “الحالة – الكيانيّة” موضوعًا للسمسرة والمقايضة الداخليّة – الإقليميّة – الدوليّة.
أمّا الأصعب فيتمثّل على المستوى الداخليّ مطلقًا (ولِمَ لا إقليميًّا ودوليًّا) في مقاربة المعادلة اللبنانيّة، التكوينيّة– الجيوسياسيّة- الفلسفيّة، وتفكيكها، واستيعابها، والعمل بموجباتها: لبنان “حالةٌ – كيانيّةٌ”. وهو، بسببٍ من ذلك، مشكلٌ عضويٌّ في السياسة، يُحَلّ بما بعد السياسة، وبما هو فوق السياسة، لكنْ من دون التنكّر للسياسة.
إذا من كتلةٍ تاريخيّةٍ، إذا من عملٍ تاريخيٍّ استثنائيٍّ يُعمَل للحفاظ على “الحالة – الكيانيّة” اللبنانيّة، فهو هذه الكتلة وهذا العمل. إذ ليس بالتبن تُعلَف العقول، فكيف إذا كان المشكل العضويّ اللبنانيّ هو الاستعصاء، وهو “المرض”، وهو… الدواء المنشود؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى