215 يوماً ونجاة عون وملحم خلف لا يزالان معتصمَين في عتمة المجلس
215 يوماً مضت على اعتصام النائبين نجاة عون وملحم خلف في مجلس النواب. الناس، الناخبون، السياسيون وحتى النواب الزملاء نسوا أمر الاعتصام ووحدهما النائبان المعتصمان ما زالا ثابتين على موقفهما ومعتصمين بحبل الإيمان بقضيتهما أو «قضية الديموقراطية واسترداد الدولة وانتظام العمل الدستوري» كما يحبان أن يسمياها. شتاء فربيع وبعده صيف ولا يزال الحال على حاله والاعتصام قائماً. خف وهجه بلا شك لكن مصاعب البدايات و»السكن» في المجلس ليل نهار لا تزال ذاتها.
عطلة الصيف الولعانة والمطاعم «المفوّلة» والأهلا بهالطلة لم تعرف إلى النائبين المعتصمين سبيلاً هذا الصيف، وحدها شدة الحر ازدادت داخل قاعة المجلس وعدا ذلك كل شيء لا يزال كما في أوائل أيام الاعتصام… فلا رئيس انتخب ولا دستور احترم ولا ظروف « المعيشة» تحسنت داخل المجلس، ووحدها مهارات «البقاء» هي ما تطورت عند النائبين المعتصمين.
« لا تعرفين ماذا يعني أن تتصلي للسؤال عن أحوالنا بعد هذه المدة» قالها النائب الدكتور ملحم خلف متاثراً، فهو يعرف أن قضيتهما تكاد تنتسى في سكرة الصيف وغمرة الأحداث المتتالية التي تقضم الجمهورية قضمة تلو الأخرى. لكن النائب الصامد لا يبالي فهو كما د. نجاة عون مؤمنان بقضيتهما كل الإيمان ومن لديه قضية لا يفقد اندفاعه ولا يقيس الصعوبات ولا يأخذ عطلة…
يوميات صعبة داخل المجلس
نحاول أن نغوص في يوميات النائبين لنتعرف عن قرب الى ما يعيشانه وننقل الى الناس واقع أيامهما ولياليهما داخل المجلس. «يومياتنا مثل يوميات الناس المتعبة بوجعها ومعاناتها يقول خلف، فنحن هنا نعيش مثل الناس بلا كهرباء ولا إضاءة أو تكييف ونتعب كما يتعبون، وأمام مأساتهم عيب أن نقول تعبنا». د. نجاة تصر حين نسألها عن صعوبة اليوميات على البدء بالجوهر لأنه الأساس «اعتصامنا هو وقفة تفعيلية لتطبيق الدستور ولولاه لكان الناس قد نسوا وجوب انتخاب رئيس إلا في حال قدوم موفد أجنبي… الكل يستهين بالاستحقاق الرئاسي وانتظام العمل بالمؤسسات وأمامنا استحقاقات عدة قادمة فكيف لا نذكر بها كل يوم ونترك البلد يسير وكأنه قادر على الاستمرار بدون تطبيق الدستور. وقفتنا رمزية إنما مهمة لتجسيد عملنا كنواب عن الشعب وللتذكير بواجبنا».
وحيدان في عتمة المجلس يحاربان طواحين الاستخفاف بالعمل الدستوري ويحاولان فتح ثغرة في الأفق المسدود. المولد ينطفئ عند الساعة الثانية ظهراً فتغيب الكهرباء عن المجلس ويغيب الواي فاي ويقصر النهار ويكتئب.
نكاد لا نصدق ما نسمع. نسأل كيف تتحملان هذا الحر بلا مكيف؟ «الحر يخنقنا لا سيما في الليل تكاد تنقطع انفاسنا وقبله كان البرد يزعجنا يقول النقيب. لا نستطيع القراءة وقد أحضرنا معنا مصابيح على البطارية يمكن إعادة شحنها لتؤمن لنا إضاءة. وكذلك مروحة صغيرة نشحنها صباحاً لنستعملها بعد الظهر… والصورة خير دليل وأحياناً تفرغ البطاريات فلا نتمكن من متابعة القراءة أو الحصول على بعض الهواء».
لا راديو ولا تلفزيون في ظلمة المجلس ولا واي فاي بعد الظهر «نستعمل هواتفنا الخاصة والـ 3G لنقوم بأعمالنا تقول د. صليبا عون. حتى المياه نأتي بها إذ لا وجود لبرادات مياه كما في المنازل، نحضر المياه الساخنة بالترموس، يوزعون قناني المياه في اللجان صباحاً وبعدها يصبح المجلس قاحلاً». نتفاجأ فعلاً بهذه الظروف ونحاول أن نرسم صورة أوضح ليوميات النائبين. أين ينامان؟ أين يضعان أغراضهما؟ من أي مكتب يصرفان أعمالهما؟
«على الكنبة في الصالون قرب القاعة العامة ننام. أعددنا «دورتوار» للبنات وآخر للرجال يقول خلف ضاحكاً وتؤكد د. صليبا أنها تنام على الصوفا في الصالون وتروي لنا للمرة الأولى أن والدتها مرضت ودخلت المستشفى حين أتت لزيارتها ورأت في أي ظروف تعيش…
«لقد اتخذت ركناً في قاعة المجلس وجعلته مكتباً لي، أقوم بغالبية أعمالي منه وأجري لقاءاتي عبر zoom، إلا إذا كان هناك ما يستوجب حضوري في الخارج ومشاركتي لوقفات مع الناس أو مؤتمرات تتطلب حضوراً شخصياً. عادة نبدأ نهارنا بمراجعة ما عندنا من لجان والقوانين التي يجب أن تدرس، نشرب القهوة ملحم وأنا، نقرأ الصحف، نقيّم مع النواب الزملاء الحاضرين أو الزوار الأمور وغالباً ما نتلقى زيارات من فراس وحليمة وياسين وبولا… بولا تنضم إلينا مساء كل يوم. قبل الظهر نلتقي النواب القادمين لاجتماع اللجان وبعد الساعة الواحدة نبدأ عملنا كنواب عن الأمة. من جهتي أقوم بدراسة القوانين ومراجعة التقارير وإعداد اسئلة للحكومة… ولكن في ظل وجود حكومة مستقيلة تصرف أعمالاً كيف يمكن محاسباتها وكيف يمكن سؤال وزراء مستقيلين اصلاً؟».
يشتدّ الحر مساء في هذا الصيف اللاهب، يخرج النائبان المعتصمان خارج المجلس مع زوارهما وبولا يعقوبيان الضيفة المسائية الدائمة لكنهما لا يبتعدان كثيراً فأحد الأصدقاء وهو طوني خليفة فتح لهما باب مقهاه house of wisdom ليكون متنفساً لهم حيث المراوح شغالة…
«أكثر ما اشتاقه يقول ملحم خلف أن أمشي في الخارج وأرى الشمس، صرت أفهم أكثر حال المساجين الذين يفتقرون الى فسحة للتمشي وأفهم ضرورة إعطائهم حقهم بالنزهة والخروج الى الشمس. أفتقد العطلة أكيد والبحر ولكنني أفضل ألف مرة أن اكون أمام ضميري مرتاحاً أقوم بواجبي كما ينص عليه الدستور وأميناً لأهلي وناسي وللحياة الديموقراطية من أن أكذب على الناس كذبة التوافق ومخالفة الدستور باسم التوافق. السكن في مجلس النواب كشف لي أموراً كثيرة شخصية ووطنية. شخصياً اكتشفت أن تناول الطعام من دون الناس من حولي لا قيمة له وهو ليس سوى ضرورة لإسكات المعدة، فجمعة الناس والأحباء هي الأهم. كل مساء يأتيني الاصدقاء والمحبون بطعام بيتي ويخصصونني بأكلات أحبها فأتقاسم العشاء مع نجاة والأصدقاء الموجودين… لولا نجاة لكانت الأمور اصعب بكثير يعترف النقيب…». وطنياً اكتشف نائب الأمة داخل المجلس أن البلد يعيش ضمن دولة خارج القانون وكل ما فيها يخالف أحكامه لصالح توافق بين قوى سياسية معظمها مرتهن للخارج.
في سبيل القضية
الصعوبات اللوجستية كثيرة وعلى الأخص بالنسبة لرجل: ترتيب الكنبة صباحاً وطي الشراشف ووضع المخدة في مكان لا تزعج فيه أحداً، تعليق الملابس هنا وهناك وتخصيص أماكن لها، إعداد المياه الساخنة… وبالنسبة لسيدة أمور عدة تبدو اصعب: الاستحمام، الملابس، تناول الطعام والتنظيف.
«ثمة من يقوم بأعمال التنظيف في المجلس لكن عدا ذلك نحن نهتم بكل شيء. لقد أمضيت الشتاء والربيع في المجلس ليلاً ونهاراً، حالياً خففت قليلاً، أسهر هناك حتى حوالى منتصف الليل وأعود الى بيتي» تقول نجاة عون.
نسألها عن أحداث طريفة حصلت معها خلال فترة إقامتها الطويلة في المجلس فتجيب صراحة أن لا شيء «مهضوم» حصل بل ان الظروف كلها كانت قاسية وصعبة. أما عن أكثر ما أحزنها فتصمت وكأن في فمها ماء «لن أتحدث عن أمور أحزنتني وهي كثيرة ولا أريد أن «أزعّل» أحداً في الوقت الحاضر ربما لاحقاً أتكلم وأروي أموراً حصلت…».
تخطينا الوقت المقرر للاتصال وثمة مقابلة من صحفية أجنبية في انتظار د. نجاة صليبا عون، نسمعها تسأل بداية إذا كانت تفضل اللقاء بالفرنسية أو الإنكليزية؟ «لا فرق تجيب النائبة المثقفة والأستاذة الجامعية والسياسية المناضلة،أجيد كليهما. وهي لا شك تجيد الالتزام بمبادئها والسير وراء قناعاتها حتى النهاية. «لا نملك عصا سحرية لتغيير مسار مستمر منذ 50 سنة والتغيير بالنمط سوف يأخذ وقتاً وقد يأكلنا قبل أن تصطلح الأمور، لكننا لا نملك الحق بأن نبقى ساكتين أو نتصرف وكأننا في عطلة».
صحيح فنواب الأمة لا يجب أن يكونوا في عطلة في ظروف مصيرية كهذه، لكن أين هم ومن منهم لم يمض عطلة مع الأسرة خارج الوطن؟ وجوههم البرونزية تخبر الكثير عن نشاطاتهم البرلمانية الصيفية…
حركة مقيدة واستقبالات ممنوعة
ملحم خلف العازب الذي يعيش مع والدته لم يترك له الاعتصام داخل المجلس حرية لقاء شقيقتيه الآتيتين من الخارج قدر ما يشاء، التقى بهما في المجلس ولم ير إحداهن أكثر من مرة. «أنا مرتبط جداً بجمعية «فرح العطاء»، ورغم أنني سلمت المشعل إلا أنني اشتاق أن أشارك في المخيمات الصيفية وورش العمل التطويرية، ينقصني اليوم هذا الحضور مع جيل الشباب. اشعر أنني أعيش خارج الحياة بعيداً عن بيتي وعائلتي وعن كل ما أحب. عادة لا أهدأ ولكن هذه الوقفة هي التزامي بما أومن به».
نسأل نقيب المحامين السابق عن أسوأ ما حصل معه خلال الاعتصام فلا يتردد ويخبرنا أن تقييد الحركة في البداية كان صعباً جداً وفي الأيام الأولى كان هناك إطباق تام عليهما ومنع للزيارات واستقبال الناس. وحتى اليوم يقول النقيب لا استقبل احداً بعد الثانية أقوم بلقاءاتي عبر زووم وأوقع بريدي واحياناً أستخدم مكاتب اصدقاء قريبة من المجلس فتحوها لنا لنسهل أمور عملنا.
ثمة حادثة يتذكرها النقيب جيداً وهي الليلة التي حدثت فيها الهزة في لبنان «شعرنا بأخشاب المجلس كلها تطقطق وأحسسنا وكأن السقف سينهارعلينا». هو سقف المجلس النيابي الذي قد ينهار فوق رؤوس الجميع إذا استمر العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، وصار تعطيل الاستحقاقات الدستورية نهجاً متبعاً لتدمير البلد والقضاء على نظامه الديموقراطي.
عون وخلف… «وحدن بيقبوا مثل زهر البيلسان بيقطفوا وراق الزمان، بيسكروا الغابة وبضلهن متل الشتي يدقوا على بوابي»…فهل من يسمع دقاتهما في غابة المجلس «المسكرة»؟
زيزي اسطفان – نداء الوطن