صوت بقوة 125 ديسيبيل… “بدنا ننام”!
كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
نسمع عن ساحة الشهداء وساحة النجمة وساحة ساسين وساحة العبد وساحة النور والساحة السياسية وساحات الإحتجاج ووحدة الساحات… لكن، هذه هي المرّة الأولى التي نسمع فيها عن ساحة في نصف الطريق، في نصف طريق الجميزة. في المبدأ، مفهوم الساحات العامة تعتبر – منذ بدء الحضارات – أماكن لتبادل الرؤى والأفكار. وللساحات، كما تعلمون، شروط ووظائف ومبررات. فما مبرّر إستبدال طريق مثلثة تربط النازل من طلعة العكاوي، بالآتي من الجميزة، بالمتوجه إلى مار مخايل، بالعائد إلى الوسط… بساحة تجعل الطريق أضيق وأضيق وأضيق. إنه طريق رئيسي يربط بين مدارس ومستشفيات وصيدليات ومركز الصليب الأحمر في الجوار. إنها بقعة جغرافية تستعد لاستقبال الذكرى الثالثة لجريمة إرتكبت بحقِها، نحرتها من الوريد إلى الوريد، وهي تدافع عن نفسِها من شيئين: من ساحة تعيق حركتها بدل أن تحررها من ضجيج الحانات وشاغلي الأرصفة في أرجائها. إنها بقعة ما إن تحاول أن تنهض من كبوة حتى تسقط في أخرى. وهذه المرة باسم: تطوير مدينة صالحة للحياة!
أهلاً وسهلاً بكم عند تقاطع الجميزة – مارمخايل. ثمة أشغال تُعيق الحركة. على يمين المكان درج غلام. في منتصف الطريق مبنى مستدير جميل تشلّع… وقام. الأمكنة – بمبانيها وأشكالها – تموت أيضا وتقوم. الطريق هنا شريان. بيروت كلها كما شرايين القلب التي إذا «سُدّ» أحدها حصلت الكارثة وازدحم السير في كل المحيط. فكيف الحال مع تقاطع الجميزة – مارمخايل الضيّق أساساً والمزدحم دائماً؟ أهل المنطقة فوجئوا ببدء المشروع. لم يفهموا القصد منه. ظنوا في البداية أن ورشة إمدادات للبنى التحتية فُتحت. وحين عرفوا السبب لم يبطل العجب. وعلا الصراخ: كيف تُستبدل طريق بساحة؟ لم يكن ينقص الأهالي إلا همروجة مشروع هبط عليهم فجأة باسم التطوير والتجميل!
فلننزل الى الأرض. فلنسأل الأهالي: هل يعقل أن تعترضوا على مشروع من شأنه تطوير المحيط؟ سيكون لديكم ساحة ومقاعد ويقال أشجار تتفيأون تحتها… فما لزوم الإعتراض؟ فلنسأل المنسقة العامة لتجمع الأحياء المتضررة من إنفجار الرابع من آب إميلي نصار. تقول: «نعاني من زمان من زحمة سير خانقة في المنطقة التي ننزل إليها من الخارجية ونطلع منها من الجميزة. كل المؤسسات التجارية والإستشفائية والمدارس تعاني من الزحمة الموجودة. وهناك اكثر من كنيسة في المنطقة. فكيف يعبر الناس؟ فهل الهدف تهشيل إبن الجميزة ومارمخايل؟». هذا السؤال طرحته إميلي نصار.
ليست مشكلة المنطقة فقط المشروع الذي نزل عليها «بالباراشوت»، بل بمقاهي و»نايتات» آخر الليل التي يرتادها الساهرون وجعلت السكان يرفعون صوتاً واحداً : بدنا ننام. لكن، فلنسأل عن أصحاب المشروع؟ منفذو المشروع هو مختبر المدن في بيروت – (Beirut Urban Lab). نبحث عن معلومات عنه فنسمع قصته: نعتمد على إرث من المبادرات البحثية الحضرية التفاعلية. نسأل: شو عمبيصير بالجميزة؟ جواب «المختبر»: نعمل على استحداث ساحة عامة وتوسيع الأرصفة بمبادرة من مختبر المدن في الجامعة الأميركية في بيروت. وهدفنا هو استحداث ساحة صغيرة مع توسيع الأرصفة. وهذه الساحة هي جزء من خطة النقل السلس وخطة المساحات الخضراء لمدينة بيروت. ويمرّ أحد المداخل نحو المسار الأخضر عبر الأدراج التاريخية في منطقة الرميل، من بينها درج غلام الذي تمّ تجديده وإعادة تصميمه بعد انفجار 4 آب. والساحة ستكون إمتداداً لهذا الدرج تراعي خطة التنقل السلس مع الأولوية للمشاة».
ممتاز. تنقّل سلس ومسار أخضر وأدراج تاريخية وأرصفة واسعة. وما دام الأمر كذلك لماذا اعترض الأهالي ونواب المنطقة والسلطات الدينية جميعها؟
قبل أن نسمع أجوبة هؤلاء نمشي في مار مخايل. الأرصفة الموجودة أصبحت ملكا خاصاً لأصحاب الحوانيت Pubs. إشترى هؤلاء الهواء أيضا فأعلوا الضجيج في الأجواء وأعاقوا الحركة. فما لزوم الأرصفة ما دامت الحال كذلك؟ وما دور نواب المنطقة في الموضوع؟ النائب غسان حاصباني لبّى نداء الأهالي وأصغى- كما دائماً – الى أصواتهم. هو محبوب في المنطقة. ثمة إجماع واضح على ذلك من كثير كثير من الأهالي على اختلاف مشاربهم السياسية. هو يتحدث «عن مخالفات بالجملة تجري في المنطقة تمارسها المطاعم والملاهي التي تستغلّ الأرصفة على عينك يا تاجر». يضيف: «ها قد أطلّ مشروع الساحة من دون أن يقترن بدراسة public hearing. نحن ندعم المساحات الخضر مع الإحتفاظ بالطابع التراثي لكن ما يجري يفتقد الى كثير من العناصر. المقاهي لم تترك رصيفاً في مارمخايل والجميزة والساحات تحولت الى مرائب للدراجات. بيروت مدينتنا نريدها جميلة خلابة، كما كانت دائماً، لكنها ليست باريس. لا يمكن إسقاط مشاريع عليها من دون أن نعرف ما يريده سكانها. هناك محال تجارية لا يمكن الوصول إليها إلا عبر هذا الطريق. ثمة صليب أحمر يضطر الى عبور الطريق مرات يومياً باتجاه مريض. ثمة طلاب يقصدون المدارس المحيطة ومرضى يتوجهون الى المستشفيات المحيطة. فهل نقول الى كل هؤلاء، هناك من ارتأى تحويل الطريق الى ساحة؟ هل يفترض بكل هؤلاء أن يعبروا مشياً ويعانوا جلجلة من نوع آخر؟».
فلنسأل النائب هاغوب ترزيان. هو كان عضواً في بلدية بيروت قبل أن يترشح عن دائرة بيروت الأولى ويصبح نائباً عن دائرة بيروت الأولى. هو طالما كان، بكلام آخر، يتابع حيثيات أي مشروع يطرح في بيروت. لكن، ما حدث، أنه سمع عن هذا المشروع بالصدفة. ويقول: «في مسألة السهر، قصدنا وزير الداخلية والتقينا محافظ بيروت، وطالبنا بوجوب إصدار قرارات توقيف واضحة بحق من يمارسون أفعالاً مقلقة للسكان. إنهم يؤثرون سلباً على البقية ممن يعملون تحت القانون. هؤلاء يرفعون الموسيقى بشكل كبير فيضطر الآخرون الى التمثل بهم». ويستطرد بالقول: «قمت بنفسي بـ «كبسات» على الحانات. هناك زعران يسيئون الى الآخرين. قلت للدولة: إختمي حانات هؤلاء بالشمع الأحمر وإذا لم يجمد الشارع بأكمله ليس إسمي هاغوب. هناك موضوع الباركينغ أيضا. الفاليه باركينغ يعمل بعشوائية. وأنا بصدد الإتفاق مع مستشارين لوضع خطة في هذا الإطار. هناك موضوع الأرصفة أيضا، يجب تحرير الأرصفة حالاً. لا يجوز لمن قبل إستئجار محل مساحته خمسين متراً أن يطلب على الرصيف مساحة أكبر».
يصل ترزيان الى موضوع الساحة ويقول: «لم يكن لديّ أي خبر حول هذا المشروع. وحين رأيت التمديدات ظننتهم يبنون شبكات مجارير. لاحقاً، قرأت إسم من يقومون بالمشروع من دون أن أرى تاريخاً لبدايته ولنهايته». ويستطرد بالقول: لا يزيد عرض الطريق التي قرروا الإبقاء عليه في المكان- ذهاباً وإياباً – عن ستة امتار و30 سنتمتراً. يعني إذا مرّت سيارة للصليب الأحمر يتعطل السير في الإتجاه الآخر. تحدثت عن منى فواز، أستاذة الدراسات الحضرية والتخطيط في مختبر المدن فلم تستطع أن تعطيني أجوبة واضحة حول المشروع. لهذا أعتبر أن المشروع ليس إلا نوعاً من التصيّد phishing. هو مشروع غير متكامل. إنه مشروع لزوم ما لا يلزم».
غريبٌ حقا أن يجتمع نواب ومطارنة وأهالٍ وتجار على رفض مشروع يفترض أنه بيئي. هو إنطلق قبل خمسة أشهر ، تحديداً في 23 آذار 2023. خمسة أشهر والجميزة تنتظر «لزوم ما لا يلزم» وأعوام وهي تنتظر أيضاً من يُخفّض ضجيج لياليها وهي المنكوبة. باختصار، الجميزة تريد، مثلها مثل مار مخايل، أن تنام. فلنعد الى إميلي نصار لنسألها: هل نفهم من كل ما سمعناه أن المنطقة تدفع من جديد الثمن باسم الرفاهية؟ تجيب: «منذ انطلق العمل قدمنا عريضة لمحافظة بلدية بيروت. إلتقينا لاحقاً بأصحاب المشروع لكنهم لم يقتنعوا بهواجسنا ونحن لم نقتنع بجدوى المشروع. وبصراحة شعرنا أن توجهاتهم غير بريئة. نحن لا نريد تهشيل العالم من المنطقة. قلنا لهم: إذا كانت لديكم اموال فساعدوا الناس للعودة الى بيوتهم. وإذا كانوا يريدون توسيع الرصيف فهل يضمنون ألا يتحول إسوة بكل الأرصفة الى موقف للدراجات النارية؟ في كل حال، قرر رئيس بلدية بيروت والمحافظ وقف العمل حالياً. هي خطوة أولى جيدة نتمنى أن تستكمل باستخدام الأموال المرصودة في مشروع يخدم المنطقة فعلياً».
نجول في الأرجاء. مواد البناء تستمر على الطريق العام لكن الأعمال متوقفة. نتوجه نحو حانات مار مخايل فنضطر الى المشي على الطريق، بين السيارات، فالأرصفة محجوزة. الحانات تستخدم (بتراخيص) مدى الهواء وتضع خيم نايلون على الأرصفة تستقبل تحتها الزبائن. أصبح أمام كل حانة حانة في الشارع العام. أما الموسيقى فيفترض أن تكون 55 ديسيبيل لكن إميلي نصار عملت على قياسها – مع أهالٍ آخرين- فأتت النتيجة 125 ديسيبيل. وهذا ليس كل شيء، في البقعة الجغرافية التي شربت دماً زكياً كثيراً في 4 آب كثير من المشردين على الطرقات يبيعون الزهور وهناك متعاطو المخدرات وثمة حانات – تؤكد نصار – تضع حبوب الهلوسة في كؤوس الزبائن ومعظمهم شباب وشابات. وهناك شكوى واحدة على الأقل في هذا الإطار.
نصغي الى كل ما يحصل في المنطقة. نصغي الى تحذيرات النائبين غسان حاصباني وهاغوب ترزيان. نصغي الى إميلي نصار… فنتأكد أن من بيدهم سلطة إعطاء التراخيص لا يبالون بما يريده ناس المدن. ولنأخذ مثلا الحانات، الرخصة الأولية تعطى من وزارة السياحة. رخصة الأرصفة والصوت تعطى من محافظ بيروت. رخصة بيع الكحول تعطى من وزارة المال. رخصة الصحية تعطى من وزارة الصحة. كل هؤلاء يتضافرون لتشريع الخطأ.
وماذا بعد؟
التواقيع تتكدس باسم أهالي منطقتي الجميزة ومار مخايل وعنوانها: نريد أن ننام… نريد أن نعبر في مسارنا مطمئنين سالمين آمنين… لا نريد مشاريع تهبط علينا بالمظلة.