في لبنان صندوق الاقتراع يخطف ناخباً
سجّل مجلس النواب اللبناني أول حالة من نوعها في كوكب الأرض: صندوق الإقتراع خطف نائباً، مجهول اسمه، ومتوقع تسم خاطفه… لكن تُمنع الإشارة إليه حتى بالأحرف الأولى من إسمه أو من هويته السياسية.
حضر 128 نائباً إلى مقر البرلمان للمشاركة في الجلسة الـ 12 المخصصة لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بعد 11 دورة فاشلة في قرابة 8 أشهر من شغور رئاسة الدولة. بعد فرز مغلفات الإقتراع الموجودة في الصندوقة الزجاجية عثر على 128 مغلفاً، ما يؤكد أن جميع أصحاب السعادة النواب الذين تتكون منهم السلطة التشريعية… قد اقترعوا.
بعد إخراج أوراق الإقتراع من مغلفاتها وفرزها بإشراف ممثلي الكتل النيابية، عثر على 127 صوتاً مقترعاً، فأين اختفى المقترع-النائب الذي احتسب ضمن أعضاء السلطة التشريعية الذين حضروا للقيام بمهمة دستورية تلزمهم بانتخاب رئيس لا يلزمه دستور البلاد بإعلان ترشيحه و برنامجه السياسي.
فهل ما جرى هو مسخرة Mockery؟
أم هو ممارسة رديئة للكوميديا السوداء (Dark Comedy )؟
المسخرة هي أسلوب تعبير يعتمد مفردات تقلب المعنى المباشر إلى نقيضه ما يثير الضحك والإستهزاء في آن
أما الكوميديا السوداء فهيّ مزج إحترافي للسخرية والهجاء في آن، والمقصود بهذه الحرفة ممارسة الهجاء الحاد بأسلوب يجرّد المعنيُ من القدرة على شن هجاء مضاد مغلّف بنكهة كوميدية.
ما حصل في البرلمان اللبناني هو مزج للمسخرة والكوميديا السوداء معاً.
المسخرة ظهرت عندما كانت شريحة نواب الممانعة وأتباعهم يقترعون ويغادرون القاعة مباشرة بعد الإقتراع ما كشف خطتهم التي لم يعترض عليها أحد عندما حصلت لأن خطواتهم كانت غير دستورية كونها حصلت قبل عمليات العد والفرز التي يجب، وفق الدستور، أن تحصل في حضور النصاب الذي توفّر لعقد الجلسة وهو ما لم يحصل وما لم يعترض عليه رئيس المجلس النيابي نبيه بري.
والكوميديا السوداء تجلّت بقرار بري عدم إعادة الفرز أو عدم إعادة الإقتراع لأنّ النصاب لم يعد مؤمناً بعد خطف صوت نائب في دولة تشهد عمليات خطف يومية لأسباب عدة، بعضها تخريبي.
وبعدما طُلب من بري إما إعادة الفرز أو إعادة الإنتخاب بعد بروز مسألة الصوت الضائع اعتبر أن الإعادة غير ممكنة لعدم توفر النصاب، ما يطرح السؤال: كيف تم الفرز الأولي بعدما كان ظاهراً للعيان أن ناخبي محور الممانعة قد غادروا القاعة قبل الفرز؟ لا جواب.
المهزلة تجلّت بعد تصاعد الضجيج حيال فارق الصوت الضائع إذ نسب إلى أمين عام المجلس النيابي عدنان ضاهر قوله للنواب إن الصوت الضائع يعود لظرف “وجد فارغاً” من ورقة الاقتراع. ما يطرح السؤال جدياً:
لماذا لم يعلن أثناء عملية الفرز عن وجود ظرف فارغ من ورقة الإقتراع؟
السؤال بصيغة أوسع هو: هل ما جرى هو تنفيذ لخطة أعدت في خفاء قام بموجبها نواب كتلة الممانعة وأتباعهم بالتأكد من الحؤول دون إنعقاد دورة ثانية قد تؤدي إلى رفع أصوات مرشح السياديين جهاد أزعور من 59 إلى 65 ما يجعله رئيسا منتخباً للجمهورية ويعني سقوط منافسه الممانع سليمان فرنجية الذي لم يحصل على أكثر من 51 صوتاً في الدورة الأولى من الجولة الانتخابية الـ 12؟
والسؤال بصيغته الشاملة لا يقتصر على: لماذا لم يحدد بري موعداً قريباً للجولة الانتخابية الـ 13؟ هل امتنع عن الدعوة إلى جلسة فقط كي لا يعتبرها السياديون على تعدد أسمائهم وإنتماءتهم مجرد دورة ثانية للجولة الـ 12 ما يعبد الطريق أمام أزعور لهزيمة فرنجية؟
وكما يقول المثل الشعبي “المكتوب يقرأ من عنوانه”، فبناء عليه يصح التساؤل: لماذا لم تصدر الدعوة من رئاسة مجلس النواب للدبلوماسيين الأجانب لحضور جلسة الإنتخاب على ما تفرضه التقاليد أقله للشهادة على تنتخاب رئيس والإستماع إلى خطاب القسم؟ هل لأن مكتب المجلس النيابي كان يعلم مسبقاً، ويعمل مسبقاً، على عدم تنفيذ جلسة تسفر عن إنتخاب رئيس؟
وتكر سبحة التساؤلات: لماذا كلف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزير خارجية فرنسا السابق جان إيف لودريان بزيارة لبنان “بعد” الجلسة 12 المخصصة لإنتخاب الرئيس؟ هل كان ماكرون يعلم مسبقاً أن رئيس لبنان لن يُنتخب في 14 حزيران؟
السؤال بصيغة أوسع: هل يعني تعيين لودريان إعتراف فرنسا رسمياً بفشل مقاربتها السابقة للإنتخابات الرئاسية اللبنانية التي قامت على مقاربة دعم إنتخاب الممانع فرنجية ضمن مقايضة توصله إلى قصر بعبدا وتوصل السفير نواف سلام إلى رئاسة الحكومة؟
حتى بري نفسه نقل عنه قوله رداً على سؤال عما نقلته إليه السفيرة الفرنسية آن غريو يوم الإثنين الماضي: “يريدون رئيساً ولا شيء سوى انتخاب الرئيس. ليس الفرنسيون وحدهم بل أعضاء الدول الخمس. الأميركيون والسعوديون والمصريون والقطريون لا يقولون سوى نريد رئيساً. لا نسمع من أي منهم أي اسم، بل استعجال انتخاب الرئيس فقط. يتجنبون التدخل في الانتخاب”. وعما إذا كان يُفهم من هذا الإصرار أن الفرنسيين تخلوا عن دعم ترشيح فرنجية، أجاب بري “يريدون رئيساً وفقط”.
ويبقى السؤال الأخير: طالما أن بري يعرف ماذا يريد الخماسيون – العرب الثلاثة إضافة إلى الأميركي والفرنسي- ، لماذا لم يؤمن لهم في الدورة الـ 12 يوم الأربعاء في 14 حزيران إنتخاب رئيس؟
محمد سلام – هنا لبنان