جنبلاط والإعتزال: الحجج كثيرة والمطلوب واحد
يجيد وليد جنبلاط افتعال الحدث. هو من القلّة الذين يعرفون كيف يستقطبون الأضواء والتساؤلات، ويثيرون من حولهم الغبار والضباب والالتباسات. والأرجح هو الأشطر في هذا المجال. وهو أيضاً من القلّة الذين لا يحتاجون إلى سواتر ترابية تقيهم شرّ انتقادات الرأي العام والناس. يفعل ما يشاء وكيفما يشاء، من دون تجميل أو مواربة. والكثير من الفضل يعود للعلاقة الوجدانية التي تربط بين دارة المختارة وبين مريديها.
بهذا المعنى، لم يجد حرجاً في إحالة دعمه لميشال معوض إلى التقاعد المبكر. وفق حساباته، أدى قسطه للعلى مع الرجل، فانتقل إلى المربّع الذي يليه: البحث عن مرشح توافقي. حتى حين بدا جهاد أزعور من المرشحين الممكن لهم أن يشكلوا تقاطعاً بين المعارضات وجبران باسيل، لم يضطرجنبلاط إلى مجاراتهم. سبقهم إلى مربع الورقة البيصاء «إن اقتضى الأمر».
بالأمس أعلن وليد جنبلاط استقالته من رئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي التي صار عمرها أكثر من 46 عاماً، ليثير عاصفة من الأسئلة حول خلفيات هذا القرار لا سيما وأنّه أتى في توقيت دقيق للغاية:
فمن ناحية عاد بشار الأسد إلى الجامعة العربية بعد عزلة لعقد ونيف من الزمن، بما يعني ذلك من ضرب لكل الرهانات التي قادها كُثر، ومن بينهم جنبلاط على إخراج الأسد من المعادلة السورية. وهو لم يتردد في التعبير عن استيائه بشكل مباشر حين غرّد قائلاً «وهل سألوا الشعب السوري اذا كان يرغب في العودة إلى الحضن العربي طبعاً لا. الجامعة العربية شبيهة بسفينة الـTitanic تحمل هذا الشعب إلى غرق محتوم وقد أعطي النظام شرعية التصرف والذين نجوا من التعذيب أو السجون أو التهجير فإنّ الحضن الحنون كفيل بشطبهم ومتى بربكم استشرتم الشعوب العرب؟».
ومن ناحية أخرى، يقبع الاستحقاق الرئاسي في عنق الخلاف العمودي الحاصل بين الثنائي الشيعي الداعم لترشيح سليمان فرنجية والقوى المسيحية الأخرى، المختلفة أصلاً، والرافضة لترشيح رئيس «تيار المردة». فيما جنبلاط يقف على الضفة يترقّب وصول التسوية الاقليمية. وبالانتظار، يحمل لافتة توريث نجله تيمور.
ولهذا، ألبس قرار استقالته من رئاسة الحزب ألف سؤال وسؤال: هل قرر الرجل اعتزال السياسة؟ هل هي واحدة من حلقات المسلسل الهوليودي حول خروج اللاعبين الكبار من المشهدية والتي تلي انكفاء سعد الحريري؟ هل قرر الزعيم الدرزي الاختباء خلف نجله لكي يمنع عن «اللقاء الديموقراطي» تجرّع كأس سليمان فرنجية؟ أم أنّ الرجل فعلاً قرر التراجع إلى الخلف ضمن تسوية اقليمية بضمانات دولية تتيح لتيمور أن يرث الزعامة بسلامة وأمان؟
في الواقع، من يعرف الرجل يجزم بأنّه ليس من طينة السياسيين الذين يخجلون من الاقدام على أي خطوة قد تفرضها الواقعية السياسية عليه. لا خشية من انقلاب ناسه عليه، ولا من تعرّضه للانتقادات. فعلها في أكثر من محطة، ولا يبدي ممانعة في أن يكررها اذا قتضت المصلحة.
ما يعني وفق هؤلاء، أنّ السيناريوات المتداولة حول وضع نجله في الواجهة لكي يهرب من الحسم الرئاسي اذا ما دنت الساعة، فيها الكثير من المبالغة. بالأساس، في آخر إطلالة له، ابتكر جنبلاط لفريقه النيابي هامشاً جديداً يقضي بالتصويت بورقة بيضاء في ما لو تبيّن أنّ لا تسوية اقليمية حول رئاسة فرنجية، أي لا انخراط سعودي بالكامل فتكون مشاركة المملكة من خلال «قبة باط» لا أكثر. ما يعني أنّه لم يقفل على نفسه في علبة رفض القطب الزغرتاوي، وترك منفذاً يمكن اللجوء إليه في حال تطوّرت الأمور أكثر لمصلحة الأخير. أما اذا قررت السعودية الانخراط جدياً في تسوية تأتي بفرنجية رئيساً، فقد نحصي أصوات «اللقاء الديموقراطي» في مصلحة فرنجية. ولكن إلى الآن لا تسوية من هذا النوع.ارتباطات القرار
في المقابل، يكشف اشتراكيون أنّ قرار جنبلاط مرتبط حصراً بمقتضيات الاستحقاق الداخلي للحزب التقدمي. اذ كان يفترض اجراء الانتخابات مطلع العام 2021 لكن التضييق الذي فرضته جائحة كورونا حال دون اتمامه في موعده. فجرى التمديد لمجلس القيادة وإبلاغ وزارة الداخلية بذلك. ثمّ تبيّن أنّ الموعد الجديد متزامن مع ورشة الانتخابات النيابية، فتمّ التأجيل لمرّة ثانية.
ولهذا كان لا بدّ من موعد جديد حتمي. حُدد المؤتمر الحزبي العام في 25 حزيران أي بعد شهر على التمام. في الشكل، هو احترام لمبدأ تداول السلطة الحزبية. في المضون هو خطوة أضافية ضمن مسار توريث تيمور جنبلاط والتي يفترض أن تتزامن مع تشكيل مجلس قيادة اشتراكي جديد منسجم مع الوريث:
ففي العام 2017 وتحديداً خلال الذكرى الأربعين لاغتيال كمال جنبلاط، ألبسه وليد جنبلاط الكوفية، وتوجّه إليه بالقول «لذا يا تيمور سر رافع الرأس، واشهر عالياً كوفية فلسطين العربية المحتلة… كوفية المقاومين لإسرائيل أيّاً كانوا». يومها بدت النقلة أشبه بنصف «تطويب» ونصف «تموضع».
في العام 2018 ترشّح تيمور للمرة الأولى للانتخابات النيابية ليزيح عن كتفيّ والده عبء الالتزامات الخدماتية والتواصل المباشر مع القواعد الشعبية. وليتورّط شيئاً فشيئاً في دهاليز السياسة وزواريبها.
اذاً، هي محطة الزامية في مسار انتقال الزعامة من وليد جنبلاط إلى تيمور، لا بدّ من عبورها. تأجلت لأكثر من ثلاث سنوات وصار لا بدّ من الإقدام عليها. هكذا، يفهم أنّ الاعتبارات الداخلية المرتبطة بمسار ومصير الزعامة الجنبلاطية هي التي تطغى على ما عداها. ومن بعدها يمكن الركون إلى الكثير من العناوين. من بينها مثلاً أنّ لتيمور مقاربته الخاصة للشأن العام والتي تملي عليه أن يختار مساراً متمايزاً عن والده، ما يعني أنّه لو بقي مشروع ترئيس فرنجية من دون غطاء اقليمي، بشقه السعودي تحديداً، فستكون حجة جنبلاط جاهزة من خلال تجييرها لنجله تحت عنوان أنّ الأخير رافض لهذا الخيار. ولهذا يمكنه استثمار خطوة ابتعاده عن الواجهة الحزبية من خلال وضع الطابة في ملعب نجله.
ولكن أن يجلس وليد جنبلاط في الصفوف الخلفية، للقرار، لا للمشهد، فذلك سيناريو خيالي لا مكان له في الواقع. أن يصير تيمور رئيساً للحزب، وفق الترجيحات، لا يعني أبداً أنّ وليد جنبلاط فقد مفتاح التأثير أو تخلى عنه… احتمال لن يجد من يصدقه أو يتعامل معه بجدية، ولو أنّه من قماشة السياسيين الذين يتأثرون كثيراً بمزاجهم، ويبدو أنّه صار يفضّل التعاطي بالسياسة مع عناوينها العريضة من دون تفاصيلها المملة.