التحقيقات الفرنسيّة تلاحق خيوطاً جديدة بملف سلامة: ثلاث شركات
لم تكن شركة “فوري” سوى رأس الخيط، الذي بدأ بكشف سلسلة طويلة من الفضائح الأخرى المرتبطة بالسمسمرة على سندات الدين العام اللبناني وشهادات إيداع مصرف لبنان، على حساب المال العام.
وعلى ما يبدو، سيمضي اللبنانيون وقتًا طويلًا في متابعة أخبار هذه الارتكابات، التي توحي بأن حاكم مصرف لبنان كان يتعامل مع المصرف المركزي كدكّان صغير خاص به، لا كمؤسّسة عامّة حسّاسة تُعنى بانتظام الوضعين النقدي والمصرفي. دكّانة سائبة من هذا النوع، لم يكن من الممكن أن تنتج إلا أحد أكبر الانهيارات المصرفيّة والنقديّة في التاريخ الحديث، والتي تميّزت عن سواها من الأزمات بأنّ المصرف المركزي، المُقرض والملاذ الأخير، هو مصدر الخسائر الكارثيّة.
آخر سلسلة الفضائح، ترتبط بشركة “أوبتيموم إنفست”، التي بدأ المحققون الفرنسيون بتعقّب أثرها مؤخّرًا، والتي تشبه عمليّاتها والشبهات المرتبطة بها تلك المتعلّقة بشركتي “فوري” و”سوفيل”. ثلاث شركات مختلفة، وثلاث فضائح كبيرة، سيكون على اللبنانيين تذكرها جيّدًا عند الحديث عن مصدر “خسائر مصرف لبنان”، التي تحار الدولة اليوم في كيفيّة معالجتها.
التمييز بين الفضائح الثلاث
قبل الغوص في ملف شركة “أبتيموم إنفست”، وما انكشف من معطيات جديدة، قد يكون من المفيد المرور سريعًا على المعالم الأساسيّة للفضائح الثلاث، للتمييز في ما بينها من ناحية شكل العمليّات وتوقيتها، وملاحظة النسق المتشابه في كيفيّة “السمسرة” على الأموال العموميّة:
1- شركة “فوري”: شركة مسجّلة بإسم شقيق حاكم مصرف لبنان، رجا سلامة، وقّعت مع مصرف لبنان عقداً سمح لها بجني 330 مليون دولار من العمولات، مقابل عمل الشركة كوسيط يبيع سندات الدين العام وشهادات الإيداع من مصرف لبنان للمصارف التجاريّة. حصلت العمليّات بين عامي 2002 و2015، وتشير التحقيقات إلى أنّ فوري كانت شركة وهميّة حصلت على العمولات على نحو غير مشروع، من دون أن تقدّم بالفعل خدمات الوساطة المزعومة، وخصوصًا بعدما أشارت المستندات إلى عدم معرفة المصارف بوجود هذه الشركة “الوسيطة”، وعدم وجود مبرّر لهذا الوسيط أصلًا.
2- شركة “سوفيل”: شركة مملوكة من مجموعة من المصارف التجاريّة، وتتركّز ملكيّة جزء كبير من أسهمها بالمصارف المحظيّة لدى الحاكم. استحدث مصرف لبنان من أجلها هندسات ماليّة خاصّة، قامت بموجبها الشركة “بوساطة” لبيع سندات الخزينة من المصرف المركزي لمصلحة هيئة الأسواق الماليّة (التي يرأسها الحاكم نفسه!). وبذلك، استفادت الشركة من آليّة خاصّة لتمويل هيئة الأسواق الماليّة، وجنت أرباحاً ضخمة على حساب المال العام، بدل أن تتحمّل الشركات الماليّة المملوكة من المصارف كلفة تمويل الهيئة عبر رسوم وعمولات جديدة. امتدّ تاريخ العمليّات منذ العام 2013 على أقل تقدير، واستمرّ حتّى العام الماضي، من دون أن يكون مفهومًا سبب الحاجة لوجود وسيط وعمولات بين مصرف لبنان وهيئة عامّة يرأسها حاكم المصرف نفسه.
3- شركة “أبتيموم إنفست”: الشركة التي بدأت التحقيقات الفرنسيّة بالغوص في ملفّها مؤخّرًا، والتي من المفترض أن يُسأل عنها الحاكم في جولة الاستجوابات الجديدة، إذا حضر. تاريخ الشركة مليء بالشبهات والتجاوزات، فيما أعادت فضيحة شركة “فوري” تسليط الضوء على هذا التاريخ الملتبس، نظرًا لتشابه نوعيّة العمليّات التي قامت بها الشركتان. عملت الشركة لوقت طويل، ومنذ العام 2004، كوسيط لبيع المنتجات الماليّة بالنيابة عن مصرف لبنان.
“أبتيموم إنفست”: تاريخ حافل من الشبهات
تأسست الشركة عام 2004، لتقدّم خدمات “الوساطة الماليّة” المتعلّقة بالمنتجات الماليّة “ذات العوائد الثابتة”، أي تحديدًا: سندات الخزينة اللبنانيّة وشهدات الإيداع الصادرة عن مصرف لبنان، وفي العام 2012 حصلت الشركة على ترخيص رسمي لتقديم هذه الخدمات من قبل المصرف المركزي. ومنذ ذلك الوقت، عُرفت الشركة بسيطرتها على جزء كبير من سوق شراء وبيع المنتجات الماليّة، التي يملكها مصرف لبنان. يدير الشركة أنطون سلامة، المعروف بقربه من رجا أبو عسلي، مدير التنظيم والتخطيط في المصرف المركزي، والمتورّط أساسًا في ملفي “فوري” و”سوفيل”.
في واقع الأمر، لم يكن اللبنانيون بحاجة للتحقيقات الفرنسيّة ليكتشفوا أن ثمّة علامات استفهام كبيرة تدور حول هذه الشركة بالتحديد، إذ يشير سجلّها المعروف في أسواق المال اللبنانيّة إلى ما يلي:
- هندسات ماليّة غير قانونيّة: عام 2017، قرّر حاكم مصر لبنان منح الشركة هندسات ماليّة لا تحقّق أي منفعة عامّة تُذكر، بل تحقق أرباحاً ماليّة مجانية وصافية للشركة، ومن دون أي مقابل. حصلت الهندسات على النحو التالي: أقرض المصرف المركزي الشركة 48.6 مليار ليرة لبنانيّة بفائدة سنويّة قدرها 5%، لتتمكّن الشركة من شراء سندات خزينة لبنانيّة تحقق عوائد بنسبة 7.11%. العمليّة السريعة مكّنت الشركة من تحقيق هامش ربح يقارب المليار ليرة سنويًا (فارق الفوائد بين العمليّتين)، على حساب المال العام، ومن دون أي مبرّر.
الملفت في الموضوع، هو أنّ هذه الهندسات انطوت على مخالفات قانونيّة كبيرة. إذ يحصر قانون النقد والتسليف، التسليفات الممكن منحها للشركة بقروض في الحساب الجاري، على أن تكون مكفولة بسندات تجاريّة لا يتجاوز تاريخ استحقاقها السنة الواحدة. أما التسهيلات الممنوحة للشركة، فحصلت مقابل إمكانيّة رهن سندات تستحق بعد 84 شهرًا، “عندما يطلب مصرف لبنان ذلك” كما نصّ عقد القرض.
- تدقيق وحدة الرقابة على الأسواق الماليّة: عام 2016، فتحت وحدة الرقابة على الأسواق الماليّة تحقيقًا طال أكثر 1500 عمليّة قامت بها الشركة، على خلفيّة شبهات ترتبط بنحو 8 مليار دولار من الأموال التي دخلت وخرجت من حسابات الشركة منذ العام 2010. وارتبط العمليّات المشتبه بها تحديدًا بالتوسّط لبيع سندات وشهادات إيداع مملوكة من قبل المصرف المركزي، وهو ما يذكّر بنوعيّة العمليّات التي يجري التحقيق بها في ملف شركة “فوري”.
وتشير المصادر المتابعة لهذا الملف إلى أنّ تحقيقًا مفصّلًا وصل إلى قصر بعبدا، تضمّن جميع التجاوزات المرتبطة بملف الشركة، وبناءً على هذا التحقيق بالتحديد. إلا أنّ التقرير نام في أدراج القصر لاحقًا.
- التآمر لتهريب سندات اليوروبوند: عام 2020، وبالتوازي مع جهود حكومة حسّان دياب لإعادة جدولة السندات المستحقّة في شهر آذار، قادت كل من المصارف اللبنانيّة ومصرف لبنان أكبر عمليّة تهريب لسندات اليوروبوند، لنقل ملكيّة هذه السندات إلى أطراف خارجيّة، ومنع الحكومة من فرض عمليّة إعادة الجدولة. في تلك المرحلة، برز إسم الشركة كلاعب أساسي، على خط التوسّط لشراء السندات وبيعها لمصلحة الصناديق الاستثماريّة الأجنبيّة.
وأشارت العديد من المصادر يومها إلى أنّ بعض السندات التي كانت مملوكة من المصرف المركزي، وجدت طريقها “بشكل ما” للبيع في أسواق المال العالميّة، من قبل الشركة.
هكذا، ومع تقدّم التحقيقات الأوروبيّة، تنكشف تباعًا المزيد من عمليّات المخطط الاحتيالي، أي “البونزي سكيم” الذي تشير له تقارير البنك الدولي، والذي بدّد اموال مصرف لبنان في عمليّات متبادلة بين مصرف لبنان والمصارف، والمؤسسات الماليّة الشبيهة بشركة “فوري”. أمّا الغائب الأبرز عن الساحة، فهو الحكومة اللبنانيّة، التي كان من المفترض أن تدقق في جميع هذه العمليّات من خلال مسار التدقيق الجنائي، “المغيّب” حتّى اللحظة بقرار متعمّد من وزير الماليّة.