سيناريو إسرائيل بشأن أحداث جنوب لبنان يتّضح.. هذه خفايا تحرّكها
كشفت عملية إطلاق الصّواريخ من جنوب لبنان باتجاه الأراضي الفلسطينية، أمس الخميس، “هشاشة” قوة الردع الإسرائيليّ و”ضعف الحيلة” في إتخاذ القرارات. فبكلّ بساطة، وقفت تل أبيب حائرة أمام مختلف السيناريوهات لـ”ردّ الاعتبار” بعد الذي حصل معها عند جبهة جنوب لبنان، فوجدت نفسها عاجزة عن اتخاذ أيِّ قرارٍ بشأن ردّ قد يؤدي بها إلى مواجهةٍ شاملة نظراً لعدم قدرتها على ذلك.
وبعد ساعات مُطوّلة من النقاشات عقب أحداث الجنوب، ومن أجل “حفظ ماء الوجه”، قرّرت تل أبيب شنّ عدوان على غزة بدأ منتصف ليل الخميس – الجمعة، في حين أن طائرة إسرائيلية شنت فجر اليوم الجمعة غارة على منطقة مفتوحة غير مدنية، وتبين أنها مساحة من البساتين في محيط مخيم الرشيدية في صور. وميدانياً، فقد أسفرت الضربة عن تضرر سطح منزل يقطنه مزارعون سوريون أصيبوا بجروح.
ما يُمكن استنتاجه مما فعلته تل أبيب خلال الساعات الماضية هو التالي: استهداف جبهة غزّة بشكلٍ موسع باعتبارها منطقة أقل خطراً من جبهة لبنان ويُمكن خلالها إسداءُ ردّ مفتوحٍ يطالُ مواقع عسكرية موضوعة على لائحة بنك الأهداف الإسرائيلي. أما في ما خصّ لبنان، فإنَّ الخوف الإسرائيليّ من جبهته كان واضحاً، وما يظهر هو أنّ القصف العابر لمحيط مخيم الرشيدية يعدّ إشارة على أن تل أبيب عاجزة بشكلٍ كبير عن الدخول في معركة مع لبنان، كما أنها عاجزة عن ضرب أي منشآت حيوية أو مدنية داخل الأراضي اللبنانية، لأنها تعلم علم اليقين أن جبهة النار ستُفتح في وجهها وبالتالي ستتدحرج الأمور إلى حربٍ كبرى. وإزاء ذلك، ومن أجل “ردّ الاعتبار” وتصوير نفسها أنها قادرة على شنّ غارة، جاءت الضربة داخل لبنان في “أرضٍ مفتوحة”، وهي المعادلة التي لا تعني شيئاً عسكرياً.
مع كل ذلك، فإنّ إسرائيل سعت إلى إبراز نفسها متماسكة عسكرياً رغم الأزمة التي تضربها، والأساس هنا أن وحداتها العسكريّة تحرّكت باتجاه غزّة فوراً من أجل إثبات قوتها الجوية مُجدداً، والتأكيد أيضاً على أن القرار الأمني يطغى على أي أزمة داخلية، وبالتالي يمكن تنفيذ ضربات تحت أيّ ظرفٍ من الظروف.
صواريخ الجنوب.. “فبركات” أم حقيقة؟
بمعزلٍ عن خشية “إسرائيل” مواجهة “حزب الله” في لبنان، فإنَّ فرضية “افتعال” الأحداث عبر صواريخ الجنوب قد لا تكون مُستبعدة من أجل “توتير الجبهات” المختلفة. وفعلياً، فإن ما جرى من أرض الجنوب قد يكون مرتبطاً بسيناريو فبركته جهات تابعة لإسرائيل داخل لبنان من أجل توريط الأخير في حربٍ أو من أجل استدراج تل أبيب لشنّ هجمات محدودة عليه “تردّ الاعتبار” إليها بعد الحديث عن انكسار شوكتها العسكرية بسبب الأزمة الداخلية التي تضربها. كذلك، قد تكون “فبركة الأحداث” التي حصلت سبيلاً يدفع إسرائيل نحو إستهداف جهاتٍ بشكل مريح وتحت ذريعة “الدفاع” عن نفسها ضدهم، والمقصود هنا هي الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة “حماس”، والدليل على ذلك هو أن مختلف التقارير الإسرائيلية ربطت ما حصل بالجنوب بالحركة على نحو السرعة، وكأنّ ما حصل كان مُدبراً لإلصاقه بها فوراً. إلا أنّ “حماس” نفت علاقتها بما حصل، رافضة إقحامها في كلّ جرى على الساحة اللبنانية من تطورات.
المفارقة أيضاً هو أنّ عملية إطلاق الصواريخ التي حصلت في الجنوب سبقتها رشقاتٌ أخرى انطلقت من غزة فجر الخميس. وطبعاً فإنّ هذا الحدث قد لا يكون لوحده عاملاً مُحفزاً لإسرائيل من أجل استهداف “حماس” بقوة، فجاءت أحداث جنوب لبنان “شحمة على فطيرة” من أجل زيادة الإصرار على إتمام ضربة كبرى ضد الحركة من جهة، وتكريس إستهداف ممنهج من جهة أخرى، والأساس في ذلك هو أن القصف الذي شهدته غزة ليل الخميس – الجمعة حدّد مراكز عسكرية معينة، ما يعني أنّ هناك استعداداتٍ ضمنية لشن استهدافٍ مُركّز ومعروف الغايات.
وفي حال لم تكن أحداث الجنوب مفتعلة، أي أنها حقيقية، فإنَّ إستغلال إسرائيل لها سيكون كبيراً بطبيعة الحال من أجل تثبيت نفسها على خارطة الردع والتأكيد على أنها غير قابلة للإنكسار، سواء في غزة أو لبنان، ولكن من دون أن تتطوّر الأمور إلى حرب وبالأخصّ مع “حزب الله” الذي نأى بنفسه أمس عما حصل في الجنوب، كما أنه لا إشارات حالياً من قبله باتجاه الدخول في معركة كبرى. هنا، تكمن أدلة عديدة أولها أن الحزب لم يُصعّد بعد التهديد الإسرائيلي، كما أن المعطيات اللوجستية المرتبطة بالصواريخ التي أطلقت تشيرُ إلى أنّ الحزب بعيدٌ تماماً عن مشهدية أحداث الجنوب. ولهذا، كان لافتاً في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين عدم توجيههم اتهامات لـلحزب بما حصل تجنباً لـ”إستفزازه” أو الإنجرار معه إلى معركة، وبالتالي حصر الأمر بـ”حركة حماس” من أجل تنفيذ ضرباتٍ ضدها تحت ذريعة “الدفاع عن المستعمرات الإسرائيلية وإثبات القوة”. وإزاء ذلك، قررت إسرائيل ضرب غزّة معقل “حماس” الأساسي بشكل مركّز وغير عابر من أجل التأكيد على أمرين: الأول وهو أنّ تل أبيب ستبقى بمواجهة “حماس” وستستهدفها في “عُقر دارها” حتى ولو نفذت عمليات من مناطق خارج غزة، مثل جنوب لبنان. أمّا الأمر الثاني فيرتبط بإصرار إسرائيل على إثبات أنها قادرة على شنّ هجمات كُبرى، وذلك من أجل إبقاء صورة جيشها متماسكة وأنه لا ضعف أبداً رغم الأزمات القائمة.
ما الذي تخشاه إسرائيل؟
ضمنياً، فإنّ إسرائيل تخشى الإنجرار إلى المواجهة الشاملة التي قد تفتحُ عليها أبواب الجحيم فعلياً. وإذا كان هذا الأمر سيتحقق، فعندها ستكون إسرائيل قد خسرت قوتها لأنها المواجهة ستكون مفتوحة ضدها، وبالتالي سيكون تهالك الجيش أكثر سرعة. مع هذا، فإنَّ مبادرة إسرائيل نحو أي تصعيدٍ ليس من مصلحتها الحالية، فهي تخشى ذلك تماماً في ظلّ “الإبتعاد” الأميركي عنها في الوقت الراهن لاسيما وسط أزمة التعديلات القضائية والإنقسامات السياسية الحادّة.
وأمام كل ذلك، فإنّ إسرائيل ستلجأ إلى المكان الذي ترى أنه لن يقودُ بها إلى مواجهةٍ مدُمرة مثلما سيحصل مع “حزب الله”. فعسكرياً، تُدرك إسرائيل أن الحرب مع غزة لن تشهدَ على تقنيات متطورة مثلما سيجري مع “حزب الله”، على الرغم من أن فصائل المقاومة الفلسطينية استخدمت أمس في غزة صواريخ دفاع جوي باتجاه الطائرات الإسرائيلية. وفي ظلّ هذه النقطة، فإن إسرائيل تخشى المغامرة بسلاح الجوي التابع لها، كما أنها تخشى الإنغماس في معركة بريّة مع لبنان، ولهذا وضعت نفسها في مواجهة غزة لأنها جبهة سهلة جداً مقارنة مع لبنان.
في خلاصة القول، فإنّ المعركة التي حصلت قد تكون مقدّمة لتصعيدٍ سيجري جر إسرائيل إليه، وما جرى في جنوب لبنان قد لا يكون الأخير، والأنظار دائماً تتجه في مثل هذه الحالات إلى اللاعبين الأساسيين “حزب الله” و “إسرائيل” والسؤال المطروح عليهما في كل مرة: هل الذهاب إلى حرب فعلية بات قريباً؟ الوقائع التي ستفرض نفسها فجأة ستكون كفيلة بتقديم الإجابة.