محليات

بو حبيب بكلمة عن سياسة لبنان الخارجية بين الواقع والمرتجى

اليكم كلمة وزير الخارجية والمغتربين عبدالله بو حبيب في اللقاء الحواري مع جمعية متخرجي المقاصد الاسلامية في بيروت حول سياسة لبنان الخارجية بين الواقع والمرتجى والذي عقد مساء اليوم في مركز الجمعية في الصنائع- بيروت.

“أصحاب الدولة والمعالي والسعادة، حضرة رئيس الجمعية الدكتور محمد مازن شربجي المحترم، أيها السيدات والسادة،

تحيّة من القلب للمقاصد المتجّذرة في عاصمتنا بيروت، منارة الشرق ونموذج العيش المشترك. فهذه المؤسسة العريقة حملت الإعتدال لواءً وشكّلت بمسيرتها نقيضًا للتطرف والتعصّب الأعمى. كما انّها تميّزت بدفاعها عن المرأة، فإحتضنت قضيّتها ورسالتها السامية بتربية الأجيال وصناعة المستقبل.

أتيت إليكم اليوم لأتحدّث عن سياسة لبنان الخارجية. أجدنا نعيش وسط صفائح سياسيّة دولية وإقليمية متصارعة ومتناحرة تنعكس علينا وعلى سياستنا الخارجية والداخلية. إنّ فهمنا لطبيعة الصراعات والمنافسات الدولية والإقليمية، قد يساعدنا على فهم الممكن وغير الممكن في سياسة لبنان الخارجية، وأي لبنان نريده وطنًا نهائيًا لجميع أبنائه على اختلاف وتنوّع ميولهم وطموحاتهم.

على المسرح الدولي، يعيش عالمنا حالة تحوّل واضطراب. فبعد ان ثبّتت نهاية الحرب الباردة في العقد الأخير من القرن الماضي الأحادية العالمية، وانهارت الشيوعية وتفككت دولها وانشطرت الى دويلات، بدأنا نشهد تدريجيا” مع بداية القرن الحالي تحرّك مركز الثقل الجيو- سياسي من موقعه الحالي فوق منطقة الأطلسي، حيث عصفت الحرب الباردة بين المعسكرين الأميركي والشيوعي وحلفائهما، باتّجاه منطقة المحيط الهادئ، حيث المنافسة الأميركية-الغربية مع النفوذ الصيني الآخذ في التشكّل والصعود ببطء، ولكن بثبات. ولكي لا تأخذنا مخيّلتنا الى عالم متعدد الأقطاب في المدى المنظور، فإنّ دروس التاريخ علّمتنا أنّ التحولات السياسية الكبرى، وتكوين نظام عالمي جديد يكون نتيجةً لصدامات واحتكاكات. فالحربين العالميتين الأولى والثانية، خير دليل على ذلك. لذلك، من المبكر القفز الى إستنتاجاتٍ متسرعة حول طبيعة وتشكل نظام عالمي جديد، لا نعلم ولا نعرف طبيعته ونتائجه وتغيراته لغاية الآن.

ولكن مما لا شك فيه بأن الحرب الأوكرانية قد زادت من تصدّع النظام العالمي الحالي وانتجت أزمتي الأمن الغذائي والطاقة، وتضخّمًا عالميًا في الأسعار، ممّا يهدّد تعافي الاقتصاد العالمي. كما أنهكت عالمنا جائحة كورونا، اثبت كل ذلك بما لا يقبل الشكّ أنّه في ظلّ العولمة، تشكّل الأحداث والتطوّرات الخارجية والداخلية وجهان لعملة واحدة، تتأثران وتؤثّران ببعضهما البعض.

فأين لبنان من كل هذه التطورات وكيف تعامل لبنان مع هذه الأحداث والتغييرات؟

بالرغم من كل التحديات الداخلية، أخذ لبنان موقفا” متميّزًا في بداية الحرب الأوكرانية عبّر فيه عن قيمه. فإنطلاقًا من تاريخه المرير مع الاحتلال والغزو، أدان لبنان بوضوح وصراحة العدوان، ليس من باب العداء لروسيا التي تربطنا بها علاقة صداقة تاريخيّة، بل كان موقفًا” مبدئيًا” بسبب ما عاناه من احتلال إسرائيلي متكرّر، ووجود جيوش أجنبيّة على أرضه برضى بعض أبنائه، ورغمًا عن إرادة بعضهم الآخر. فكما سجّل العالم للبنان وقوفه الصريح ضدّ غزو الكويت عام 1990، كذلك استطعنا ان نسجّل موقفًا تاريخيًا متميّزًا عن كل محيطنا حيث كنّا السّبّاقين في موقف سياسي لا لبس فيه، بعدم اللجوء الى الوسائل العسكرية لحل النزاعات السياسية الواجب معالجتها بالحوار والطرق الدبلوماسية. وفي نفس الإطار، عندما بدأنا نشعر أنّ هنالك توجّهًا لعزل روسيا دوليًا وطردها أو تعليق عضويتها في المنظّمات الدولية والإقليمية المتخصّصة، بادرنا الى اقتراح عدم تسييس عمل المنظّمات الدولية والإقليمية. وقد تلقف اشقاؤنا العرب هذا الاقتراح، وصدرت بموجبه توصية عربية جامعة بهذا الشأن، إستعنّا بها أيضًا لتسجيل موقفنا المبدئي الرافض للعزل والإقصاء، والداعي للحوار لإيجاد المخارج المشرفة. فتجربة الماضي، بعزل المانيا بعد الحرب العالمية الاولى أدت الى فشل عصبة الأمم في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، مما عَبَد الطريق وساهم في تراكم المشاكل وصولا” الى إندلاع الحرب العالمية الثانية، وما تبعها من ويلات.

ومن العالم، ندخل إلى المسرح الإقليمي الذي تعصف به اصطفافات مخيفة وتنذر بأشد العواقب. فالصراعات المفتوحة في الإقليم تُشكل ساحاتٍ للتدخلات الأجنبية. إن الحل المستدام لهذه النزاعات يُحتِم أن يكون صناعة عربية لا سيما في سوريا، واليمن وليبيا. فَلمُ الشملِ مصلحةٌ مشتركةٌ للعربِ عموما”، ولبنان خصوصا”، البلد الذي يتأثر سلبا” بتداعيات الوضع العربي المعقد والمشتت في حالته الراهنة.

ستبقى فلسطين القضية المركزية ومفتاح الإستقرار في منطقتنا المضطربة. فلا حلول مستدامة، ولا سلام شامل دون حل عادل للمأساة الفلسطينينة. فإسرائيل تعيش اليوم لحظاتها الأكثر تطرّفًا وجموحًا، وتمعن في توسيع مستوطناتها. كما تسعى إسرائيل الى صب الزيت على النار لتلعب دور حارس الإقليم، وضابط الأمن.

ولكل هذه التعقيدات في الإقليم آثارها على واقع لبنان السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي. إن مصلحة لبنان عدم الانسياق الاعمى وراء العداوات المجانية، التي سترتد علينا جميعًا خسارةً موجعةً، عندما يحين زمن التسويات السياسية. ونتوسم خيرا” اليوم ببشائر تبريد أحد أخطر الصراعات في الإقليم. فلقد رحبنا بالاتفاق السعودي-الايراني لإعادة إحياء العلاقات الدبلوماسية الثنائية نظرا” لما سيتركه من أثر إيجابي على مجمل العلاقات الاقليمية في المرحلة المقبلة. وعليه، ينعقد الأمل في المساهمة بتعزيز ركائز الاستقرار والأمن في المنطقة، وتوطيد التعاون الايجابي البناء والمنفعة المتوقعة منه على الجميع.

على مستوى علاقاتنا العربية، نسعى جاهدين ليكون لبنان حاضرًا في قلب العرب وعقلهم، ونعمل جاهدين لحضور عربي فاعل في بلدنا. وقد يقول البعض أن للعودة شروطها وهي معروفة ومعلومة، وترتبط بما يجري في الإقليم. ونحن نتفهم وجهة نظرهم، ونأمل أن يصل اللبنانيون جميعًا، مؤسسات ومجموعات، إلى رؤية موحّدة تساعد على هذه العودة، ومدخلها المبادرة الأخوية الكويتية لوصل ما إنقطع، التي تلقفناها بكل ترحاب ونعمل جاهدين على تطبيق بنودها. ولكنّنا في نفس الوقت، نلفت كريم انتباه الجميع ان الديمقراطية التوافقية التي ارتضاها اللبنانيون نظامًا للحكم، اعترفت بتنوّع لبنان ضمن وحدة الكيان. فالقرارات الأساسية في لبنان نتاج توافق داخلي، وهي مرآة لطبيعة نظامنا السياسي. فلا مركزية أو حصرية في الصلاحيات والقرارات لأية جهة بمفردها خارج إطار التشاور والتوافق.

أيّها الأصدقاء،

يقال أن كل السياسات محلية all politics is local، بمعنى أن صناعة السياسة الخارجية مصدرها العوامل الداخلية والمحلية. وهذا ما يدفعنا الى العبور من أوضاع الإقليم المتفجّرة الى الكيان المأزوم. فأي سياسة خارجية نريد ولأي لبنان. ولننظر الى أنفسنا بالمرآة، ونعترف بمرارة وصدق أن بلدنا ينهار، وإن لم نسارع جميعًا الى إنتشاله، فهو يتّجه أكثر فأكثر الى التحلل. لقد عانى لبنان منذ منتصف الخمسينات عدة فترات عدم إستقرارٍ وحروب. ولعل الإستتثناء الوحيد هي الحقبة الذهبية، من العام 1958 ولغاية العام 1968. فلبنان محكومٌ بموقعه الجغرافي في منطقة ملتهبة حينا” وغير مستقرة حينا” آخر، مما ينعكس على أوضاعة الداخلية وعلاقة أبنائه ببعضهم بعضا”. لحل الخلافات الداخلية، يستنجد تاريخيا” طرفٌ لبناني بالخارج ضد طرف داخلي آخر لتحقيق مصالحه الضيقة على حساب الوطن، مما يساهم في تصدع البنيان الداخلي. إن منطق الأمور يستحيل فيه أن يتمكن الطرف الداخلي، وهو الأضعف، أن يستعمل قوة خارجية، وهي الأقوى، لتحقيق مصالحه الضيقة على حساب مصالح هذا الطرف الإقليمي أو ذاك. فالخارج لديه مصالحه وأجندته، ولا يعمل كمؤسسة خيرية. لذلك يبقى المفتاح لحماية لبنان الإتفاق الداخلي على قواسم مشتركة تُحصن بلدنا، وتمنع إستغلال الخارج لخلافاتنا.

لقد عملت جاهدًا، منذ أن تشرفت بتولّي حقيبة الخارجية، لإبعاد الوزارة عن التجاذبات السياسية والاصطفافات الداخلية. لأنّ سياستنا الخارجية، التي تساهم في هندستها هذه الوزارة ويضعها مجلس الوزراء، تكون محصّنة وفاعلة بقدر ما نحيطها بإجماع وطني. وبالمقابل، يدبّ فيها الوهن، وتصبح مجرّد وجهة نظر لفريق داخلي، لا تؤخذ على محمل الجدّ بين الدول والأمم، كلما أقحمناها في زواريب المتاريس السياسية الداخلية. وخير مثال على ذلك، ما أنجزه لبنان في مسألة ترسيم حدوده البحرية. فقد تكاملت وحدة الموقف الرسمي الداخلي، والجهوزية والردع العملاني في جنوب لبنان في دعم المفاوض الرسمي، اضافةً إلى الدور الفعّال والنزيه للوسيط الأميركي، في وصول الأمور إلى خواتيمها المرجوّة. كما ساهمت وزارة الخارجية بإبداء المشورة حينًا، والنصح حينًا آخرا”، ونقل الرسائل والأجواء والانطباعات أحيانًا أخرى، ممّا ساعد على تخطّي الصعوبات وتذليل العقبات.

إنّ خارطة طريق وقف الانهيار السريع تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية اليوم قبل غدا”. ولعل الشغل الشاغل لكافة اللبنانيين، ومصدر تكهناتهم وتحليلاتهم هويّة واسم الرئيس العتيد، ومن هو مرشح هذه الدولة الأجنبية أو العربية. لقد لمست في كافة أسفاري الخارجية، ولقاءاتي الداخلية مع كبار الزائرين خلال الأشهر المنصرمة، وقبل وبعد انتهاء الولاية الرئاسية، حرصا” وخوفًا دوليًا على مستقبل لبنان وأهله يفوق أحيانًا حرص بعض أهل السياسة على مستقبل بلدنا. أمّا الملاحظة الثانية التي استوقفتني، فهي أن الدول المؤثرة والمعنية العربية والأجنبية ترفض لتاريخه تبنّي مرشّح معيّن لرئاسة الجمهورية، تجنبا” ربما من هذه الدول لعدم تحمّل تبعات هذا الخيار أو ذاك. فالعالم اليوم منشغل بأزماته من الحرب الأوكرانية الى المنافسة الأميركية-الصينية وأزمتي الغذاء والطاقة. يخطئ من يظنّ بأنّ الاهتمام الدولي منصبّ على لبنان، في ظلّ تزاحم الأولويات والاجندات التي يتخبّط بها نظامنا العالمي. فالموقف الحيادي للدول المؤثرة، من دعم مرشّح على حساب مرشح آخر، عبّر عنه بصراحة اللقاء الخماسي في باريس مؤخّرًا، وتبلّغناه رسميًا من سفراء الدول المعنيّة.

إضافةً إلى الفراغ الرئاسي القاتل، لبنان مهدّد اليوم تهديدًا وجوديًا آخرًا يصيبه مقتلاً، ويضرب صيغته القائمة على شعور كافة أبنائه بغض النظر عن انتماءاتهم، بأنّهم متساوين في الحقوق والواجبات، بخلاف دولٍ أخرى حول العالم لا تشعر فيها الأقلية، مسيحية كانت أم إسلامية، بالمساواة مع الأكثرية الموجودة في هذه الدول. فلبنان اليوم، مجمع على أنّه حان الوقت لوضع خارطة طريق لعودة آمنة وكريمة للنازحين السوريين الى ديارهم بالتعاون مع المجتمع الدولي، أي الدول التي تمول المنظمات الدولية والأهلية العاملة مع النازحين السوريين. لأنّنا لم نعد قادرين في ظلّ أقصى أزمة إقتصادية نواجهها في تاريخنا الحديث، على انتظار الحلّ السياسي في سوريا لبدء العودة الآمنة للاجئين إلى ديارهم. وتزداد مخاوفنا بعدما تبيّن لنا بأنّ المجتمع الدولي، ليس لديه خطّة متكاملة أو رؤية توفّر حلاً سريعًا للأزمة السورية. وذلك قد يحول الدعم المستمرّ لبقاء النازحين في لبنان، إلى مشروع مماثل لمنظمة “الاونروا” التي تساعد اللاجئين الفلسطينيين منذ 75 عامًا، وتصارع لتأمين الموارد الشحيحة للقيام بعملها.

إن موضوع اللجوء يتخطّى البعد المادي على أهميّته، ليطال جوهر الرسالة اللبنانية في تنوّعها ومساواتها بين مكوّناتها. فلبنان نقيض الأحادية، وعندما تطغى فئة منه أو طائفة على غيرها، يفقد لبنان علّة وجوده. فلكلّ هذه الأسباب، يوجد اليوم اجماع لبناني على عدم دفن رأسنا في الرمال وضرورة البدء بحلّ هذه الأزمة.

ولقد ساهمت مروحة الاتصالات الدولية، وادراج هذا البند على اعلى سلّم اهتمامات سياستنا الخارجية، خلال كافّة لقاءاتنا الخارجية والداخلية، في تفهّم العديد من الدول لهواجسنا وتعاطفها مع موقفنا، وصولاً إلى تطابق نظرة البعض منها مع نظرتنا. فسياستنا في هذا الملف الدقيق والحساس تعكس وحدتنا واجماعنا الوطني، وهي إن لم تصل لتاريخه الى أهدافها المرجوّة، لكنّها حتمًا فتحت كوة في جدار الرفض الدولي لإعادة النازحين بكرامة وأمان إلى ديارهم. فالسياسة الخارجية عمل دؤوب تراكمي، تتقاطع فيه الفكرة والنظرة الصائبة مع اللحظة المناسبة.

أيّها السيدات والسادة،

في الخلاصة، نعيش في عالم مضطرب ومتحوّل، وفي إقليم يتزلزل جغرافيا” وسياسيا”. عالمنا اليوم غارق في انشغالاته وهمومه العسكرية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية. فهل نصحو قبل ان تجرفنا التطورات المتسارعة ونسارع الى انتشال لبنان بوفاقنا الداخلي من مأزقنا، ومن ثم نطلب مساعدة الدول العربية منها والأجنبية الصديقة الراغبة بدعمنا إذا دعمنا أنفسنا، أم نبقى ننتظر الحلول الخارجية التي قد لا تظهر تباشيرها في المدى المنظور. وفي حال ظهرت، قد لا تنعكس علينا في المدى المنظور.

فبقدر تمسكنا بأهمية ورسالة وطننا، وايماننا بغنى موارده البشرية تاريخيًا والطبيعية حديثًا، نعلم علم اليقين بأنّ لبنان قادر على النهوض من جديد، اذا نجحنا بالخروج من عباءة المصالح والسياسيات الضيقة الى رحاب المصلحة الوطنية الجامعة، والسياسة الخارجية الفعالة، وركيزتها وحدتنا في اطار تنوعنا.

فلقد اثبتت التجارب أنّه كلما خرجنا من اطار سياستنا المبعثرة، الى سياستنا الخارجية الواحدة المبنية على قيمنا ومصالحنا الوطنية، كلما صعدنا من القعرالى رحاب سماء طاقاتنا، وقدراتنا اللامتناهية على صناعة مستقبلنا المشرق بأيدينا وسواعدنا.

ختاما”، كل الشكر لجمعية متخرجي المقاصد على هذه الإستضافة ، وتمنياتي لكم بإستمرار التوفيق برسالتكم خدمة للبنان وبيروت وأهلها”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى