هل من حدود او مِهَل للنصائح الدولية؟
كشفت مراجع ديبلوماسية متطابقة، أنّها مضطرة لتكون اكثر صراحة من اليوم وصاعداً مع المواطنين اللبنانيين، مخافة ان يزرع بعض القادة والمسؤولين الشكوك في عقولهم، والمضي والإيحاء بأدوار وهمية تدّعي مواجهة مسلسلات التخوين والمؤامرات التي يسوّق لها البعض، تغطية لأداء فاشل او لتمويه بعض المخطّطات التي لا تخدم وطنهم. وعليه، ما هي الدوافع لمثل هذه التحذيرات؟ وهل انتهى عهد النصائح أم انّ لها مهلة لا بدّ من إمرارها؟
ليس من قبيل المصادفة ان ترتفع حدّة الحركة الديبلوماسية لمجموعة من سفراء الدول الصديقة للبنان في مواجهة التطورات المتسارعة على الساحة اللبنانية وحجم الانهيارات التي أصابت قطاعات حيوية متعددة أفقدت اللبنانيين ابسط حقوقهم. وهي مجموعات دولية، منها تلك التي انضوت أخيراً تحت عباءة «اللقاء الخماسي» العربي – الدولي الذي عُقد في باريس في السادس من شباط الماضي، او أولئك الذين يقودون منذ الإعلان عن «مجموعة العمل الدولية من أجل لبنان» التي تمّ إطلاقها في 26 أيلول عام 2013، سلسلة من البرامج الإنمائية والتربوية والصحية والاجتماعية في مناطق متعددة من لبنان. وكلها نشاطات تمّ التخطيط لها وتنفيذها على خلفية حشد الدعم والمساعدة لاستقرار لبنان وأمنه وسيادته كما نصّت الوثائق التي رافقت الإعلان عنها.
وإلى المهمات التي تعهّدت بها هذه المجموعات الدولية والاقليمية، فقد فرضت الظروف الضاغطة التي سادت في لبنان اللجوء إلى أساليب جديدة غير معتمدة في بلدان أخرى، وخصوصاً بعدما بانت انعكاساتها الخطيرة على مصالح أبنائه والمقيمين على ارضه من نازحين وعاملين اجانب، ان تخوض سلسلة من التجارب الاستثنائية القاسية التي لم تعتد عليها أي بعثة دولية أو اقليمية وأممية كانت أم حكومية في كثير من دول في العالم، غير تلك التي عاشت أحداثاً غير طبيعية من دون ان تتعدّد فيها الأزمات التي يعيشها لبنان بمختلف وجوهها.
واستناداً إلى ما تقدّم من مآزق، قالت مصادر ديبلوماسية معنية بالحراك الأخير، انّ المجتمع الدولي سعى منذ سنوات عدة إلى مساعدة لبنان على تجاوز مجموعة من الأزمات التي نشأت نتيجة النزوح السوري وما رافقه من أحداث بقيت محصورة على المستوى الأمني بالمناطق الشرقية الشمالية والغربية من الحدود اللبنانية ـ السورية، حيث جرت معركة «فجر الجرود»، قبل ان ينتقل الهمّ الأمني إلى محيط وقلب مئات البؤر التي أقامها النازحون بطريقة مشتتة وغير منتظمة، بعدما لم يقرّ لبنان الخطط التي وضعتها دول الجوار السوري بإقامة المخيمات النظامية المحمية أمنياً، وتلك التي تجمعهم بطريقة منتظمة تخفف من أعبائهم على المجتمعات المضيفة، فزادت من مآسيهم بدل ان تبقى محرّرة من انعكاسات وجودهم والمخاطر البيئية والصحية والأمنية المترتبة على وجود أكثر من 1300 بؤرة في لبنان.
وكأنّ لبنان ما يكفيه من أزمات – أضافت المراجع الديبلوماسية عينها – جاءت جائحة «كورونا» لتزيد من المصاعب التي بلغت الذروة التي لا تُحتمل، عندما بلغت عملية تفجير مرفأ بيروت في ظلّ الأزمة الاقتصادية والمعيشية الناجمة عن الانهيار المالي والنقدي المريع الذي اصاب لبنان بطريقة غير مسبوقة، ولم يتغير شيء على مستوى آلية الحكم وإدارة البلاد ومؤسساتها. فتنازعت السلطات وانتصبت المؤسسات الدستورية في مواجهة غير مسبوقة طوال السنوات الاخيرة، إلى درجة تحوّلت فيها الاصول المتبعة للتنسيق في ما بينها إلى اساليب المواجهة غير المحمودة، ولم تنفع النصائح الدولية والملاحظات التي أُبديت، فتمادى الجميع في ارتكاب ما لم يكن مقبولاً بأي شكل من الأشكال.
عند هذه المعطيات، كان من الواجب ان يسارع أهل الحكم إلى تقديم المسؤولين عمّا حصل. فالأزمات المتلاحقة وقعت فيما كان البعض من المسؤولين الكبار يمارسون مسؤولياتهم، ومن الغريب غير المحتمل، انّه لم يتحدّ اي مسؤول المجتمع الدولي بالمجاهرة بمسؤوليته عمّا حصل، فتناغم الخصوم ولجأوا إلى سياسة تبادل الاتهامات للتعمية على المسؤولين الحقيقيين وهم من مختلف الفئات والأطراف والمؤسسات. هكذا ضاعت الحقائق وغابت المحاسبة بكل اشكالها، ودفع اللبنانيون وحدهم ثمناً لم يكن مقدّراً لو اعتُمدت بعض الخطوات الاستثنائية التي كان يجب ان تتحقق على المستويات النقدية والمالية والاجتماعية والادارية، فتعاظمت الأزمات وعمّ الشلل كل القطاعات في ظلّ إنكار دائم وغير مسبوق.
وأضافت المراجع عينها: «لم نسعَ في اي يوم من الايام لنصرة فريق على آخر، وعرضنا على المراجع المختصة ما يكفي من التجارب، وقدنا مع المعنيين أكثر من تجربة ميدانية تحاكي وجوه الأزمة، وحدّدنا الخطوات التي كان يمكن اللجوء إليها لتخفيف التردّدات الخطيرة لما حصل. وبدل التعاون لتطبيقها، واجهنا البعض من قوى مختلفة كما بعض المسؤولين، بلغة التخوين والاستهتار احياناً، وتمادوا في تنظيم انتخابات نيابية ضربت بعرض الحائط كل الاصول الديموقراطية، في دوائر عدة أُقفلت على المراقبين والمكلّفين الإشراف عليها، فشابتها مخالفات فاضحة لا تُحصى. ولكنها وثقت بالجرم المشهود لدى الفرق والمجموعات الدولية والأممية والمحلية التي طُلب منها المساعدة، فتجاوزوا تقاريرها وما قالت به، إلى ان وصلنا الى ما نشهده اليوم من مظاهر اللادولة لئلا نقول اكثر من ذلك».
وقياساً على ما تقدّم، ووسط المخاوف مما هو آتٍ إن بقي الأداء على ما كان عليه من قبل، فإنّ المجتمع الدولي ممثلاً بعدد من مؤسساته المختلفة، ستكون له ملاحظات وتدابير أكثر تشدّداً في الفترة المقبلة، ما لم يتدارك الجميع مخاطر التنكّر للحقائق المخيفة. فالبلاد على ابواب انهيارات متتالية، وقد يصلون إلى مرحلة يعجز فيها الداخل والخارج عن تطويقها. فحجم الأزمة المالية والمواجهات الجارية على مستوى السلطات العليا في غياب رأس السلطة الاجرائية، تنذر بكثير مما هو غير متوقع، وقد تكون له انعكاسات لم يشهدها البعض في قطاعات عدة.
وتستطرد هذه المراجع لتقول: «ما معنى المواجهة القائمة من ضمن السلطات الدستورية؟ فالشلل الحكومي الناجم عن عجز الحكومة عن مواجهة اي ملف خلافي، يلاقيه الخطر المحدق بشل السلطة التشريعية، وهو ما يقلق المجموعات الدولية المهتمة بلبنان. ويزيد من المخاطر فقدان السلطة القضائية هيبتها ومعها مؤسسات الرقابة التي تخوض مواجهات مع القطاع المصرفي قد تكون لها انعكاسات تزيد من العزلة الدولية للبنان، وعندها قد لا ينفع بيان من هنا او تحذير من هناك. فالعالم منشغل بالأزمات الدولية الكبرى، وعلى اللبنانيين لملمة مشكلاتهم الداخلية وتجميع القوى لمواجهة تحالفات جديدة وخطط كبيرة قد تطيح بالتركيبة الحالية إلى ما لا يريده احد. ولا يعتقدن أحد انّ مرحلة النصح والرشد مفتوحة إلى ما شاء الله، وانّ لها حدوداً تقف عندها من دون القدرة على تقدير ما يمكن ان تليها من خطوات، وهو أمر لم يعد سراً، فالمسؤولون في أجواء المِهل المحدّدة والخطوط الحمر المرسومة.
جورج شاهين – الجمهورية