متى يعود الحريري إلى العمل السياسي؟
طوني عيسى – الجمهورية
على رغم مرور عام على إعلان انسحابه من العمل السياسي، لم يملأ أحد موقع الرئيس سعد الحريري على مستوى الزعامة السنّية. وثمة مَن يعتقد أنّ لحظة سياسية معينة لا بدّ أن تدفع بالرجل إلى العودة والانطلاق من جديد، ما دامت الأرضية جاهزة. فمتى سيكون ذلك؟
عندما أعلن الحريري الإنسحاب، في 25 كانون الثاني 2022، كان يستعجل القرار لحسم مسألتين: الأولى هي عدم إغراق نفسه في «مأزق» الكلام السياسي في ذكرى 14 شباط من ذلك العام، والثانية هي التنصُّل تماماً من الانتخابات النيابية التي كان على «تيار المستقبل» أن يتخذ قراراً في شأنها، ترشيحاً وتحالفاً.
وبالفعل، اكتفى الحريري بإعطاء ذكرى والده أبعادها العائلية والمعنوية لا أكثر، على رغم أن حشوداً من المناصرين فاجأته بالحضور إلى الضريح وكانت تستهوي أن يخاطبها في السياسة. ثم نأى تماماً بنفسه وتياره عن الانتخابات النيابية في أيار، على رغم أن المناصرين والعديد من الكوادر كانوا يميلون إلى إثبات الحدّ الأدنى من الحضور في اللعبة السياسية والبرلمانية.
ظهرَ واضحاً أن الحريري لن يتراجع عن قرار الانسحاب قبل الوصول إلى الأهداف المرتجاة، خصوصاً أنه مُتخذ بالتنسيق مع مرجعيات عربية وازنة، كما يقال. ولذلك، سيتعاطى الحريري مع ذكرى 14 شباط هذا العام، كما في العام الفائت، أي سيُبقيها مقتصرة على البعد العائلي والمعنوي، وسيتوجَّه بالتحية إلى المناصرين من دون الكلام في السياسة.
ومع زيارة الحريري المتوقعة للبنان وإحياء الذكرى، يُطرَح السؤال مجدداً: إذاً، ما مغزى انسحابه من اللعبة السياسية، وتغييب المرجعية السنّية الأولى في ظروف مصيرية يجتازها البلد؟ وهل تمتلك أي قوة سنية قدرة على ملء الفراغ الذي خلَّفه هذا الانسحاب داخل الطائفة؟
بعض المطّلعين يقولون: غياب الحريري عن المسرح السياسي حالياً لا يجوز اعتباره تقاعداً. إنه في الواقع أحد فصول العمل السياسي. أي إن هذا الغياب مطلوب ليوفّر له الاحتفاظ بقدراته حتى تنجلي الصورة، فتُتاح له العودة إلى العمل السياسي في ظروف أفضل.
ويقول القريبون من «التيار»: تأكيداً لذلك، هو لم يفقد شيئاً من عناصر قوته خلال هذا الغياب. فقواعده الشعبية في مختلف المناطق لم تتراجع، والأنشطة التي يتولاها الكوادر مستمرة. وكذلك لم يضعف موقع الحريري سياسياً، بمعنى أنّ أي قوة سنّية في أي منطقة لم «تَرِث» رصيده الشعبي. أما القليل من القواعد الذي استفاد منه البعض في الانتخابات، ظرفياً، فيمكن استرداده في اللحظة التي يقرر فيها الحريري أن يعود إلى الساحة.
لكن الأهم، وفق هؤلاء، هو أن الحريري لم يخسر على الأرجح تغطية القوى العربية التي يتمتع بها قادة السنّة في لبنان تقليدياً. وما جرى في الواقع هو أن هذه التغطية لم تعد تلقائية، بل باتت مشروطة باستعادة الظروف التي تتيح للزعامة السنّية أن تتموضع بشكل مستقل، وغير خاضع لضغوط القوى الأخرى.
وفي هذا المعنى، يمكن اعتبار انسحاب الحريري من المسرح السياسي هو المحطة الثالثة في مسار من الإرباك مَرّ به الرجل طوال عهد الرئيس ميشال عون، والمحطتان السابقتان هما:
1 – إعلانه الاستقالة الشهيرة في المملكة العربية السعودية، في تشرين الثاني 2017، عندما شَكا من عجزه عن إدارة حكومته بحرية، بسبب وقوعها تحت ضغط «حزب الله». ومأزق الحريري أنه في هذه الأزمة، عاد واستعان بوساطة صديقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فعاد عن الاستقالة، مقابل وعدٍ أطلقه بعدم العودة إلى النهج نفسه. ولكنه عملياً تابعَ النهج نفسه من دون تبديل.
2 – مواجهته الصعبة لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019. وفي تعبير أكثر دقة، قام الجميع بتحييد أنفسهم في هذه المواجهة التي تحمل عنوان الفساد، وتُرك الحريري يقلّع شوكه بيديه: فلا «الثنائي الشيعي» ولا الرئيس ميشال عون اعتبرا نفسيهما معنيين بملف الفساد، فكان على الحريري – أي الزعامة السنية – أن يواجه بدلاً من الآخرين وتكون حكومته كبش المحرقة.
لذلك، في تقدير المطلعين، جاء انسحاب الحريري ضمن استراتيجية الحدّ من الخسائر. وهو سيكون حاضراً عند تبدّل الظروف وعودة التوازن إلى الساحة السياسية.
ولكن، يسأل البعض: ماذا لو استمر «الستاتيكو» القائم إلى أمد طويل؟ بل، ماذا لو جاءت التسوية السياسية تعبيراً عن توازنات القوى المحلية القائمة حالياً، والتي تترجم توازنات للقوى على المستوى الإقليمي، حيث إيران تمتلك جزءاً كبيراً من أوراق اللعب؟ وتالياً، هل تتأثر زعامة الحريري، إذا طال غيابه ولم تتغير موازين القوى داخلياً وإقليمياً؟
البعض يقول: حجم الطائفة السنّية كبير بحيث يصعب على أيٍّ كان تجاوزه. وعندما يُراد بناء الدولة في لبنان، لا بدّ من حضور الحريرية كزعامة سنّية وازنة، وقادرة على التمثيل. فالسنّة في لبنان لطالما كانوا متمسكين بالدولة. ولكن، يبقى الأمر مرهوناً بتغيير التوازنات داخلياً وإقليمياً. وهذا التغيير ليس مستحيلاً، ولو طال الوقت لتحقيقه.