محلياتمن الصحافة

حين يصبح الأستاذ “قطّاف زيتون”…

انطلق العام الدراسي 2022-2023 في التعليم الرسمي حافلاً بكل شيء إلا بالتعليم. أساتذة مكسورون مظلومون مقهورون، يحاولون أن يقلِقوا راحة السياسيين الذين سرقوا أموالهم وأتعابهم، طلاب بلا أفق ومستقبل، وأهالٍ ضائعون، ووزارة تربية تعد ولا تفي. فلنسمعهم ما دام لا شيء في البلد إلا الكلام!

ونحن نهلل للبنان النفطي نسينا أن التغيير، أي تغيير، هو النتيجة النهائية للتعلّم الحقيقي. فأين نحن من التعليم الحقيقي؟ تابعنا على مدى أيام صرخات نسرين شاهين، الأستاذة المتعاقدة في التعليم الأساسي الرسمي الذي أصدر وزير التربية القاضي عباس الحلبي قراراً مفاجئاً في حقها طلب فيه من المدير العام للتربية “عدم تجديد التعاقد معها هذه السنة والسنوات اللاحقة لانتفاء الحاجة الى خدماتها”. القرار- السابقة خطير ليس في حق الأستاذة شاهين بل بحقّ كل القطاع التعليمي الرسمي في لبنان. فهل استنسابية وزير- قاض تخوله قطع رزق أساتذة هكذا؟ هي نقطة سوداء في سيرة وزير- قاض.

نسرين شاهين، التي أبت السكوت عن ظلم منذ بدأت الأزمة تشتد على الاساتذة وكل اللبنانيين ودأبت على الكلام عن وجع من اعتادوا ان يحملوا الكتاب والقلم، كانت البارحة بالذات تنادي عبر صفحاتها على التواصل الإجتماعي: “تمّ حظري من الفيسبوك… الرجاء الدعم” وكان يجيبها متابعوها: كلنا نسرين شاهين. هي أخطأت، برأي الوزير، لأنها رفعت الصوت. فهل تحققت معها مقولة: القاضي والطبيب يقتلان دون أن يعاقبا؟

أبواب وزارة التربية موصدة. لا إجابات واضحة حول أسئلة تخطر في بال كل أستاذ وبينها: لماذا لا تضعون منصة شفافة تظهر الأموال التي تصل الى الأساتذة وكيف تُصرف؟ وكيف لأستاذ معاشه الشهري مليوني ليرة، أو لنقل في أفضل الأحوال ثلاثة ملايين، ويعجز عن إرسال ولده الى المدرسة، أن يعلّم الأطفال الكرامة؟

على الوعد يا كمون. هي رسالة وزارة التربية اللبنانية الى اساتذة التربية في لبنان.

الأستاذ في لبنان بات شحاذاً. الوزارة تتلقى الهبات باسمه. وهناك جمعيات محلية بدأت تساهم في دعم بدل نقل بعض أساتذة الثانويات. ثانوية كفرا واحدة منها. مشكورون هؤلاء لكن في ذلك ذلّ. فالأستاذ عالي (أو يجب أن يكون عالي) الجبين، يعلّم الأولاد الرفعة والإباء والكرامة وهو مجبر على تلقي المساعدات من هنا وهناك ولا يصل اليه من الجمل أذنه.

ممنوعون من الكلام

القهر كبير. لا، لا، أكثر من ذلك بكثير. ثمة أستاذ ثانوي كبير- مدير ثانوية – كان يتذمر بدوره و”ينق” بحسب كلام الوزير والحاشية والبارحة طلبوا منه أن يصوم عن الكلام وإذا شاء العكس فليأخذ إذناً بذلك. أتتصورون أن يأخذ أستاذ إذناً ممن يريد أن يصوّب عليهم الإتهام بتدمير الأستاذ؟ فلنسمعه بلا اسمه. يقول: “يزوّرون صوتنا. زوّروا صوت الأستاذ. أردنا استفتاء الأساتذة ما إذا كانوا مع العودة الى التعليم أو ضدّ العودة، لكن ما حصل أن الجمعيات العمومية عمدت الى إرسال التوجيه بشكلٍ مخالف. زوّروا النتيجة من أجل أن تأتي لصالح العودة”. يتحدث الأستاذ والمدير الثانوي عن تلغيم النتائج وتزويرها لتتناغم مع مصالح من يريدون “صمت الأستاذ” عملاً بمقولة السكوت دلالة على الرضى.

ماذا عن العام الدراسي الحالي؟ هل ننعيه؟ أمين الإعلام السابق في رابطة التعليم الثانوي أحمد خير أمضى 39 عاماً في القطاع التربوي بينها 24 عاماً مدير ثانوية وراتبه التقاعدي اليوم (ضمنه كل متمماته) أقل من أربعة ملايين ليرة. نبتسم له علناً نخفف عنه. ونتابع الإنصات إليه “إنطلاقة العام الدراسي تعتمد على ثلاث ركائز: الأساتذة والطلاب ووزارة التربية. الوزارة مربكة لا تعرف “وين الله حاطها” والأساتذة مكسورون مقهورون مظلومون والطلاب في ضياع. أما الإدارة النقابية التي يفترض ان تدير اوضاعهم فأصيبت بإحباط. والإلتباس كبير. وبالتالي، إنطلق العام الدراسي في المدارس الخاصة متعثراً فكيف حاله في المدارس والثانويات الرسمية؟ حددوا دوام أربعة أيام وسمحوا للأساتذة بإنجاز منهاجهم ضمن ثلاثة أيام في الأسبوع، وهذه غلطة في الصميم. ثمة مواد يفترض توزيعها على خمسة أيام لا أربعة ولا ثلاثة. الى كل ذلك، يتعامل الأساتذة مع وزارة لا شفافية في تعاطيها، تكتفي بترداد: سوف نعمل. إنها وزارة الوعود. ولا حوافز البتة للأساتذة. يحتاج الأستاذ الى أربع تنكات بنزين على الأقل لينتقل الى عمله، أي الى ثلاثة ملايين ليرة، أي أكثر من راتبه الشهري، فكيف يلتحق بعمله؟ وكيف يأكل ليصمد؟ يتكل على الدول المانحة؟ هذا ظلم بحقه. وإذا التحق الأستاذ بمدرسته سيكون موجوداً بالشكل لا في المضمون. سيُدرّس بلا نتيجة. عرق الأستاذ يتصبب غزيراً من قهره وعوزه وهم جالسون في مكاتبهم المكيفة. فلينزلوا على الأرض . فليترجلوا من عليائهم كي يشعروا بالأستاذ”.

هناك نحو 6000 أستاذ ثانوي في الملاك الرسمي في لبنان، وهناك نحو 2500 متعاقد، وبحسب أرقام الأعوام الثلاثة الماضية هناك بين 70 و75 ألف طالب ثانوي. هؤلاء جميعاً في معاناة يضاف إليهم أساتذة المرحلة التكميلية والأساسية. يا حرام على كل هؤلاء. يا حرام.

مياوم في القطاف

فلنعدّ الى المدير الثانوي الممنوع من الكلام الذي يهمس بآلام الأساتذة وهو يقول “اليوم، اليوم بالذات، إلتقيتُ أستاذاً أخذ عطلة، إستيداعاً، بلا راتب مدة شهرين، ليعمل مياوماً في قطاف الزيتون حيث يتقاضى 300 ألف ليرة لبنانية يومياً. هو تخلى عن شهاداته وانتقل الى قطاع مجدٍ مادياً أكثر. سلبوا الأستاذ كرامته. هو قال لي بالحرف “انفجر دولاب سيارتي فطلب مني بائع الدواليب ثلاثين دولاراً ثمن واحد جديد وراتبي يبلغ مليوني ليرة فكيف أستبدله وكيف أطعم أولادي وكيف أشتري لهم دفاتر ليذهبوا الى مدارسهم؟ يكاد الأستاذ يجنّ. ربتُ على كتفه وقلت له الله معك”.

يبدو أن نسرين شاهين إستعادت صفحاتها على التواصل الإجتماعي. فكّت الحظر. وهي أقامت من مقرّ الإتحاد العام لنقابات عمال لبنان، بحضور رئيسه مارون الخولي، مؤتمراً تحت عنوان “إنتهاك صارخ لحرية العمل النقابي” بعد تقديمها الطعن بقرار الوزير بحقها أمام مجلس شورى الدولة. لكن هل سيكون فكّ حظر الوزير بسهولة فكّ حظر الفيسبوك؟ الأساتذة يرفضون الصمت وهذا مؤشر جيّد.

بانتظار توقيع الموازنة

أن يكون المرء أستاذاً فهذا معناه أن يعيش مقهوراً. فليس كل أستاذ قادراً على أن يشارك في قطاف التفاح. وليس كل أستاذ قادراً أن يواجه كما نسرين شاهين، حيث يجمع الأساتذة على وصف القرار الذي تلقت سهامه بالخنجر المسنون الذي أصابهم جميعا ويقول المدير الثانوي المتقاعد أحمد خير “إذا كانت عليها ملاحظات أو مآخذ يجب أن تُستدعى ويُحقق معها” ويستطرد “في القانون، يمنح الوزير إمكانية الإستنسابية، أما في المنطق التربوي النقابي فقطع الأرزاق أمر غير مقبول وغير صحيح إلا إذا بني على معطيات دامغة تعطيه كامل الحقّ بذلك. يجب أن يخضع أي موظف في الملاك أو متقاعد، بحسب الأصول الإدارية، الى التحقيق، لكن ما حصل أخيرا أن الوزارة تغيرت والمديريات تغيرت وروابط الاساتذة تغيرت. كانوا من قبل عمالقة”.

الأساتذة في القطاع الرسمي يتحدثون عن رواتبهم الضئيلة ويتنافسون في “تظهير المعاناة”. ولبنان مليء بها. نسمعهم يتحدثون عن وعدٍ بزيادة ثلاثة رواتب “مربوط بالموازنة” بمعنى أنه إذا غادر “فخامتو” القصر الجمهوري قبل توقيع القانون المدرج بذلك في الموازنة وردّه “فسيدخلون في قصّة طويلة”. يتكلم الأساتذة اليوم عن أمور كثيرة وفي كلِها يصلون الى خلاصة أن “الدولة تتلاعب بهم وتتآمر عليهم مستخدمة الأساليب المخابراتية البوليسية”. وأحدهم قال “أصبحنا مثل من عملوا في شقّ قناة السويس، نعمل بلا مال، ولا نحصل إلا على ملاليم نسدّ بها قوت أطفالنا”.

نسأل عن التعليم فنسمع أجوبة كثيرة بينها كمّ الأفواه والعوز والفاقة والتعتير والملفات المشبوهة والصرف التعسفي وأكل الحقوق والقهر والقهر وثم والقهر وكيف لا والعاملون في التعليم الرسمي أصبحوا “قطافي زيتون”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى