بشكلٍ ضاغط ومُستمر، بدأ رئيس حزب “القوّات اللبنانية” سمير جعجع تثبيت مواقفهِ إزاءَ الأسماء المطروحة لرئاسة الجمهوريّة، في وقتٍ لم يحسِم فيه بعدُ الخيار الذي يريدُه في الوقت الحالي، بانتظارِ تبلور صورة المشهد العام للاستحقاق المُرتقب.
ما يظهرُ في الوقت الرّاهن هو أنّ جعجع أراد تخطّي مختلف الأطرافِ السياسيّة لإسداء رؤيته في الشخصيات التي تنخرط ضمن نادي المرشحين للرئاسة. حُكماً، فإن ذلك يُمثل تكتيكاً سياسياً يعتمدهُ جعجع في مختلف الاستحقاقات. ففي الانتخابات النيابية الماضية، كان حزبُ جعجع أوّل من أعلن مرشحيه، وهو الآن يغدُو في طليعة السياسيين الذين يعمدون إلى تحريك الملف الرئاسيّ بشكل جدّي وواضح.
وإذا كانت لدى جعجع ثقة بأنّ حصول الاستحقاق الرئاسي قد لا يتمّ في موعده، إلا أنّ خطوة انغماسِه بتفاصيل المشهد بهذا الزّخم تقوم على 3 أمور: الأوّل وهو التأكيد على أن “القوات اللبنانية” لا تريدُ الفراغ، وثانياً جرّ الأطراف الأخرى إلى لعبة الأسماء من أجل “غربلة” الكثير منها. أما الأمر الثالث وهو الأهم فيتمحور في محاولةِ جعجع تكريس معركة ضدّ خصمه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل بهدفِ إضعافِ حظوظه الرئاسيّة في نهاية عهد الرئيس ميشال عون، وذلك من خلال التصويب المباشر على ما يُطالب به باسيل من شروطٍ تُخالفِ الدستور وتؤدي إلى الإنقضاض على “اتفاق الطائف”، وبالتالي تشكيل جبهات في الشارع قد تؤدّي إلى اقتتال غير محسوب.
في آخر موقفٍ له، حسمَ جعجع خيار “الحرب السياسيّة” ضدّ باسيل، في حين أنه رفضَ تسمية رئيس “تيّار المردة”
سليمان فرنجية للرئاسة، وقال: “اسم فرنجية مرفوض بسبب انتمائه الى المحور الآخر (أي محور الممانعة)، ولكن لم نشن حملة عليه،لأن باسيل يتكفل بذلك”.
بشكل أو بآخر، يُدرك جعجع تماماً أنّ الانخراط في حربٍ ضدّ فرنجية في الوقت الرّاهن لن يكونَ لصالحه، فالخصومة المطلقة لا تتمحور حقاً ضدّ الأخير خلال المرحلة الرّاهنة. إلا أنه في الوقت نفسه، لا يُمكن لجعجع الإنكفاء بعيداً عن إبداء رفضهِ لفرنجية، ليس من قاعدة الخصومة فحسب، بل لأنّ رئيس “المردة” يُعتبرُ منافساً بارزاً لجعجع في الوقت الرّاهن، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن تكون هناك مواجهة سياسيّة معه من باب المواقف والتصريحات والتوجّهات.
مع كل ذلك، فإنّه لا يمكن لجعجع مواجهة فرنجية بأيّ ملفات كما يفعل مع باسيل، كما أنه لا توجد إمكانيّة حالية للإنقضاض على فرنجية من بوابة أي عهد رئاسي، إذ أنّ الأخير كان خصماً لباسيل ومعارضاً لسياساته، كما أنه لم يعمد إلى طرح أي خطوات بإمكانها ضرب جوهر النظام القائم وتكريس جبهات تُضعف المسيحيين وخياراتهم. إلا أنه وسط هذه المشهديّة، فإنّ دخول فرنجيّة على خطّ المُنافسة الشرسة مع باسيل سيجعل جعجع أكبر الرابحين لسببين: الأوّل وهو أنّ رئيس “القوات” سيكسبُ الرهان المُتمثل بإضعاف الجبهة الرئاسيّة لـ”محور الممانعة” عبر حصول صدامٍ داخلي بين فرنجية – باسيل. أما السبب الثاني فيُساهم في تمكّن جعجع من إحباطِ المخطط الذي لا يريده، وهو إيصال أي شخصية مقرّبة من “
حزب الله” إلى قصر بعبدا. وفي حالِ لم يتحقّق هذا السيناريو، أي أن الرئيس المقبل كان من نسيجٍ بعيد عن محور “الممانعة”، عندها سيُسجل جعجع هذا الإنجاز لنفسه من خلال التدليل على أن صناعة “الرئيس الإنقاذي” قد مرّت من معراب.
هنا، يدخلُ على الخط دور “
حزب الله” في إرساء التوازن بين باسيل وجعجع، وبالتالي في إدارة العلاقة بين الطرفين في المرحلة الحالية من دون إعطاء أي وعدٍ لشخصية على حساب أخرى. إلا أنه حتى الآن، لا تبدو أن هناك إشارات إيجابية على هذا الصعيد، وهو أمرٌ يسعى جعجع للترويج له عبر القول: “
حزب الله لا يريد خسارة باسيل لكنه لا يريده رئيساً، ولذلك فإن الحزب عالق في الأحجية لأنه لا يريدُ التخلي عن باسيل كي لا يخسر الغطاء الذي يؤمنه التيار الوطني الحر له”.
مسيحياً، قد يتلاقى جعجع مع فرنجيّة على أكثر من صعيد وذلك في حالِ جرى التركيز على الحيثية النيابيّة أو الشعبية. فبعيداً عن حجم كتلتهِ داخل البرلمان، يُمكن لفرنجية أن يكون اسماً جامعاً لمختلف الأطراف الإسلامية والمسيحية، وعندها تتحقق الميثاقيّة التي تتم المطالبة بها باستمرار في أي استحقاق. وبذلك، يكونُ جعجع قد كسبِ الرهان بإقصاء باسيل عبر عدم مواجهة فرنجية من جهة، وتأمينِ السبيل للأخير من أجل ترتيب وضعهِ النيابي على قاعدة أنّه الأقوى من باسيل والأكثر امتداداً للطوائف الأخرى بعكسِ الأخير. أما الأمر الذي لا يُمكن إغفاله هو أنّ جعجع قد يُحيط بفرنجية من أجلِ إبقاء الحرب السياسية مفتوحة على باسيل وتحجيمه أكثر مسيحياً. هُنا، سيكون فرنجية قد ردّ الاعتبار سياسياً لنفسه بشكل مباشر، بعدما آثر رئيس “الوطني الحر” تكسيرَ قوّة رئيس “المردة” السياسية، واعتبار قلة عدد نوابه في المجلس النيابي بمثابة “وصمة عار” سياسيّة. إلا أن السؤال الذي يُطرح هنا: هل سينجرّ فرنجية نحو جعجع حقاً لمواجهة باسيل؟ هل سيتحول إلى أداة لصراع النفوذ؟
على أيّة حال، فإن خيارات فرنجية واضحة، وبالتالي فإن أيّ رهان “قواتي” سيبقى محصوراً في الإطار الرئاسي، إذ أن فرنجية متمسكٌ بخياراته السياسية وامتدادهِ نحو “
حزب الله” وحلفائه لن يُزعزعه أي دعمٍ قد يطرأ من جبهة “القوّات”. إلا أن ما يمكن قوله هنا هو أنّ جعجع يسعى للعب على وتر التناقضات من أجل تحقيق بعض المكاسب السياسية تمهيداً للمرحلة المقبلة، وأبرز تلك المكاسب “تحجيم الوطني الحر” وتصوير أنه انتهى شعبياً، وهنا يكمن الانتصار الذي يسعى جعجع لتحقيقه سياسياً.
Related