إقتصادمحليات

الأزمة تسحق الطبقة الوسطى

رغم علمي بداهة بضمور الحركة التجارية في كل القطاعات وفي كل أرجاء لبنان، زيارتي الأخيرة للمول (السوق التجاري) الأقرب إلى مكان سكني في ضاحية بيروت الشرقية، بعد فترة طويلة من الانقطاع، كانت صادمة إلى حد بعيد. لم أتوقع هذا الكم الهائل من المتاجر التي أقفلت إلى غير رجعة، وبعضها على امتداد أجنحة، لا بل طوابق بأكملها من هذا المركز الأكبر حجماً والأكثر ارتياداً شرقي العاصمة. مع المتاجر، المخصص معظمها لماركات عالمية تحاكي رغبات و”فنتسمات” الطبقة الوسطى، أقفل عدد كبير من المقاهي والمطاعم وأماكن التسلية. المحلات “الصامدة” ما زالت تعرض سلعاً وأزياء حديثة، إنما من علامات تجارية أقل شهرة أو اقل “مكانة” من الماركات المغادِرة. المقاهي تقلصت كثيراً أعداد روادها كما تقلصت الخيارات في قائمة الطعام والشراب لديها، وتضاعفت بالطبع أسعارها.

أحوال المولات، التي تختصر عموماً نمط الاستهلاك المعولم كما استقر عليه في العقود الأخيرة، تُنبئ بدقة وأمانة عن أحوال الطبقة الوسطى التي سحقتها الأزمة المتمادية في لبنان، خصوصاً أصحاب الودائع المحتجزة أموالهم في المصارف وأصحاب الأجور. ويستثنى من هؤلاء قلة من ذوي الرواتب المدولرة، أي تلك التي يعاد تقييمها أو تدفع مباشرة بالدولار الأميركي الذي عاد تدريجاً، وبعد فاصل مطلع الأزمة، العملة القياس لكل ما يتم إنتاجه أو تداوله في البلد.. إلا الرواتب والأجور.

تلك المحنة تتجلى بوجه خاص لدى موظفي الدولة والقطاع العام، المتقاعدون والموجودون في الخدمة الفعلية، مدنيون وعسكريون، ويبلغ عددهم نحو 300 ألف ويشكلون مع أسرهم نحو 30 بالمئة من إجمالي اللبنانيين المقيمين. من يعتمد من هؤلاء على راتبه لتدبير أمور معيشته، وبعد سنتين ونصف السنة من التضخم الجامح والتدهور في سعر الصرف، بات دخله الحقيقي اليوم يوازي، بأفضل تقدير، 15 % مما كان عليه قبل اندلاع الأزمة. الأعلى مرتبة بين هؤلاء، أكان عميداً في الجيش أو مديراً عاماً لإحدى الوزارات أو قاضياً رفيعاً أو أستاذاً جامعياً، بات دخله، الرسمي والمعلن، لا يتجاوز 300 دولار في الشهر، أي أقل مما كان عليه الحد الأدنى للأجور سابقاً.

إلى هؤلاء، تضاف شريحة من المودعين لدى المصارف الذين لا يملكون أي دخل من أي مصدر آخر، والذين يقدر عددهم ما بين 500 ألف ومليون من اللبنانيين، فضلاً عن عدد غير معروف بدقة من المودعين العرب والاجانب. بعدما كان كل هؤلاء قد حرموا أولاً من قبض الفائدة على ودائعهم، فإن المحظوظين من بينهم بات بإمكانهم بالكاد سحب مبلغ 400 دولار في الشهر نقداً من أصول ودائعهم المحتجزة.

وإلى هؤلاء وأولئك، عصفت الأزمة أيضاً بوحشية بصغار التجار وموظفي القطاع الخاص غير المُدَولَر وأصحاب المهن الحرة على أنواعها. يصعب تقدير أعداد الذين طحنتهم الأزمة من تلك الفئات، لكن نظرة سريعة إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي من 50 مليار إلى 30 مليار دولار، وهو تقلص غير مسبوق بسرعته وحجمه في أي مكان في العالم، ونظرة سريعة أيضاً إلى أعداد المتاجر المقفلة ليس في المولات فحسب، بل في كل الأسواق والشوارع، ونظرة سريعة كذلك إلى أعداد المغادرين من أصحاب الكفاءات، تشي كلها بحجم النكبة التي حلت بالطبقة الوسطى في لبنان.

المسألة لا تقتصر على تقلص الدخل والاختلال الكبير في موازنات تلك الأسر بين الدخل والإنفاق، وبالتالي القدرة على تلبية الحاجات الأساسية من سلع وخدمات. بالتوازي مع انهيار الدخل، انهارت منظومتي الصحة والتعليم بالنسبة للأكثرية الساحقة من تلك الأسر. أكثر من ذلك، المنظومة الثقافية توشك على الانهيار. “قد نتعايش أنا وزوجتي مع مسألة عدم الذهاب مرة في الأسبوع إلى المطعم أو السفر مرة في السنة إلى أوروبا، لكن ليس مع فكرة عدم القدرة على ارتياد السينما أو المسرح أو شراء الكتب الجديدة أو تسديد اشتراك تلك الصحيفة الأجنبية على الانترنت بالعملة الصعبة”، يقول أحد الاساتذة المخضرمين في الجامعة اللبنانية، فيما لا شيء في الأفق يوحي بإمكانية تصحيح الرواتب قريباً في القطاع العام، كما فعل عدد محدود من الجامعات الخاصة.

إذن، أكثر من مليوني لبناني من الطبقة الوسطى، التي استغرق بناؤها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي قرناً من الزمن، والتي لم تقوَ عليها لا الحروب الأهلية ولا الاجتياحات العدوة والصديقة، انضموا أو يوشكون على الانضمام إلى دائرة الفقر. وها هو لبنان يوشك على الانضمام نهائياً إلى جحيم البلدان المستقطبة اجتماعياً بين أقلية فاحشة الثروة (والفساد) وأغلبية ساحقة من المحرومين، بعدما تأرجح طويلاً بفضل طبقته الوسطى على خطوط التماس بين تلك البلدان المنكوبة والدول المستقرة والمتوازنة اجتماعياً وطبقياً والمحمية أنظمتها بطبقة وسطى واسعة وراسخة.

التحدي اليوم هو إدراج ترميم الطبقة الوسطى في صميم أي خطة عامة اقتصادية-اجتماعية، سواء سميت خطة تعافٍ أو غيره. وحجر الزاوية في مثل تلك الخطة توزيع الخسائر بشكل يؤمن الحماية المطلقة لصغار المودعين والعدالة لسائر المودعين، تبعاً لطبيعة تكون ودائعهم. كذلك ضمان استقرار القيمة الحقيقية للرواتب والأجور، وإعادة بناء وتفعيل النظامين الصحي والتربوي، وتوفير الحماية الاجتماعية لجميع اللبنانيين وشبكات الأمان الاجتماعي لكل من يحتاجها، فضلاً عن حماية أصول الدولة والأملاك العامة من جشع المتطاولين، وجلهم من المسؤولين عن إفلاس النظام المصرفي ونهب موجوداته. جدول الأعمال هذا يجب ان يحضر بقوة في أي مفاوضات أو برنامج مع صندوق النقد الدولي.

وبما أنه لا يمكن، حتى إشعار آخر، ائتمان الحكومة على هذه الأولويات، على نواب التغيير وغيرهم من النواب الإصلاحيين، والذين وصلوا إلى الندوة البرلمانية بأصوات الطبقة الوسطى التواقة إلى بناء الدولة الحديثة والتغيير والإصلاح الحقيقيين، أن يعوا جيداً أبعاد هذه المهمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى