جاء في المركزية:
ثلاثة أطراف أساسية تعنى بالأزمة المالية اللبنانية: أوّلاً، الدولة التي تخلّفت عن تسديد ديونها بسبب الفساد وسوء الإدارة. ثانياً، مصرف لبنان الذي يتكبّد خسائر هائلة أحد أسبابها إقراض الدولة. ثالثاً، المصارف التي وضعت أموال المودعين مع مصرف لبنان والدولة. إلا أن الخطّة الحكومية للسياسة المالية والاقتصادية لم تحمّل الدولة المسؤولية، بل جعلت المصارف والمودعين لديهم يتكبدون الجزء الأكبر من الخسائر، ولم تتبين أي أولوية لحماية الودائع في تنفيذ للوعود السياسية التي قطعت للبنانيين. ويبدو أيضاً أن المسّ بالودائع أصبح قرارا واضحا من صندوق النقد بعد معلومات عن إبلاغه الصريح للمسؤولين بأنه لا يحبّذ تحميل الأجيال المستقبلية عبء الدين العام الناتج عن فساد الطبقة السياسية على مر السنين وهو اقتراح لا يترك سوى حلّ المسّ برأسمال المصارف والودائع.
وفي السياق، يوضح أستاذ الاقتصاد في “الجامعة اللبنانية” البروفسور جاسم عجاقة لـ “المركزية” أن “أساس العلّة الاقتصادية في لبنان الدين العام، إذ خرب البلد بعد أن أعلنت حكومة الرئيس حسّان دياب التمنع عن دفع سندات اليوروبوند. 85% من الدين كان من القطاع المصرفي وهذه الأموال تأتي من ودائع المواطنين. في الخطّة الحكومية تم شطب ما يقارب الـ 80 إلى 90% من الدين. وتنصّ الخطّة على شطب نسبة 60% من الدين في المرحلة الأولى. صحيح أن المصارف هي الدائن، لكن الأموال المستدانة هي أموال المودعين، أي ان رأسمال المصارف وقسم من الودائع سيطير، مع العلم أن الودائع بالدولار والدين العام تقريباً بالحجم نفسه ويصل إلى حدود الـ 104 مليار دولار، أي يريدون شطب حوالي 60 مليارا في المرحلة الأولى. كذلك، تنصّ الخطّة على أن الخسائر ممكن أن تصل إلى 72 مليارا إذا تمّ توحيد سعر الصرف. لكن، حتّى اللحظة لم نفهم سبب أخذها من رأسمال المصارف وأموال المودعين. أما حجّة توزيع الخسائر حسب المسؤولية فتجعل من الدولة المسؤولة الأولى لأنها هي التي أفلست وأعلنت وقف دفع مستحقّات الدين فما دخل المواطن؟ ونسمع مسؤولين يقولون أنه لم يكن يجب على المصارف تديين الدولة في حين هذا الأمر مبالغ فيه”.
ويكشف عجّاقة عن معلومة وصلت إلى مسامعه من مرجع قريب جدّاً من المفاوضات نقل اقتراح صندوق النقد محو دين الدولة. ويشرح: “في هذه الحالة فإما تستخدم أصول الدولة أي تشغيلها ضمن إطار الشراكة مع إنشاء صندوق سيادي، أو يمحى الدين من دون أي خطوة على غرار ما تقوم به الحكومة راهناً إذ استدانت أموالا وقررت شطبها بشحطة قلم. والمصدر نقل عن صندوق النقد رغبته بالتخلص من الدين العام باعتبار أن من غير العادل أن تتحمّل الأجيال المقبلة هذا الدين، خصوصاً أنه نتج عن فساد، ويقول الصندوق حرفياً، حسب ما نقل عنه، أن لا ثقة له على الإطلاق بالطبقة السياسية لإدارة أصول الدولة ضمن صندوق أو غيره ما يعني استبعاد حلّ الاستفادة من الأصول مع البقاء فقط على خيار المصارف والمس بالودائع. وهذا وضع غير سليم. بالتالي، المودع قد يكون مستعدّا للمساهمة في الخسائر ويتفهّم عدم تحميل الجيل القادم نتائج فساد السلطة، لكن فلتتم مصارحته أوّلاً كيف ومن صرف أموال الدين العام، وهذا قد يشكل مشكلة كبيرة لانه يعيد طرح مبدأ المحاسبة”.
في المقابل، وبغضّ النظر عن طبيعة الحلّ الخارجي، يرى عجاقة أن المفتاح للخروج من أي أزمة يبقى بكلّ بساطة “القيام بالإصلاحات التي تسمح للاستثمارات بأن تنهال وحدها. فحتّى في ظلّ الوضع المفلس الرديء والشديد التعاسة، لا يزال اللبناني يعيش على حساب الأموال الخارجية المرسلة من المغتربين أو من المساعدات لمؤسسات وجمعيات… قبل الأزمة كان المغتربون يحوّلون إلى لبنان بحدود الـ 8 مليار دولار وكانت تصل نفقاتهم السياحية إلى حدود الـ 7,5 مليار دولار. هذه أموال يمكن الاستفادة منها، لكن المطلوب الوحي بالثقة واسترجاعها والقيام بالإصلاحات المطلوبة إذ لا يمكن أن نضحك على المغترب ولا على المستثمر ما لم تحصل خطوات عملية. إلا أن الواضح أن لا نية للعمل الجدي، خصوصاً في ظلّ عدم وجود اتفاق سياسي يوحي برغبة في تطبيق الإصلاحات”.
على خطّ آخر، برزت توقّعات عن إمكانية اشتداد أزمة السيولة بالليرة اللبنانية جراء إجراءات قد يتّخذها مصرف لبنان لسحب كميات من الأوراق النقدية بالليرة من السوق والضغط في اتّجاه سحب الدولارات من منازل اللبنانيين.
وفي إجابة عن صحّة هذه الفرضية، يقسم عجّاقة الموضوع إلى شقين. أوّلاً، احتمال أن تشهد المرحلة المقبلة شحّاً كبيراً في السيولة، ويرى أن “ذلك مرتبط مباشرةً بقرار الحكومة في حال أرادت الحفاظ على سعر صرف مستقرّ إلى حدّ معيّن، أي أن مبدأ التعميم 161 المبني على امتصاص الليرات من السوق سيستمر”.
أما الشق الثاني أي أن يكون الهدف من القرار سحب الدولارات من المنازل، فيعتبر أنه “غير دقيق ويندرج ضمن إطار المراهنة وليس الحقائق. إذا سلّمنا جدلاً أن فرضية رغبة مصرف لبنان بسحب الدولارات من المنازل صحيحة، يبقى السؤال عن الآلية الاقتصادية أو المالية غير الموجودة الممكن اعتمادها لتحقيق هذا الهدف واستفادة المركزي من الدولارات هذه. إذ حتّى لو خرجت الدولارات فلا يمكن لأحد أن يضمن بأنها ذاهبة إلى مصرف لبنان لأن كلّ الاقتصاد بات نقدياً، في حين لا يمكن لمصرف لبنان أن يتعامل سوى مع المصارف. سابقاً كان المواطنون والتجار يودعون أموالهم لدى المصارف التي كانت ملزمة بدورها بإيداعها لدى مصرف لبنان، لكن اليوم عند الدفع لتاجر بالدولار كيف ستصل هذه الأموال إلى مصرف لبنان؟ وهو يريد إخراج ما تبقّى من أموال في حساباته المصرفية. لذا، ما من أي وسيلة وطريقة لوصول الدولار الذي يخرج من جيب المواطن أو خزنته إلى مصرف لبنان. بالتالي، العنصر الوسطي أي علاقة التاجر-المصرف فًقد”.
ويتحدّث عجاقة عن مثل حصل على مرأى من عينه حيث “أصبحت إحدى الشركات الكبرى المستوردة للنفط تطلب من المحطّات إيصال ثمن البضائع بالدولار إلى مقرّها، بينما سابقاً كان يتم إيداعها في حسابها المصرفي. ما يعني أن شركات النفط بدأت تتخلّى كلّياً عن القطاع المصرفي وهذا تطوّر شديد الخطورة وربما من المبكر معرفة السبب الكامن خلفها، إلا أنه يثبت استحالة دخول الدولارات إلى المركزي”.