حزن أبو وديع وتهافت التّلفزيونات.. من المسؤول؟
“كتب راغب جابر في “النهار العربي:
كان حزيناً جداً جورج وسوف وهو يتلقى التعازي بوفاة ابنه البكر وحبيبه وديع في كنيسة القديس نيقولاوس في الأشرفية في بيروت. وديع الذي التصق اسمه باسمه التصاقاً لا ينفصم، فجورج وسوف هو أبو وديع وأبو وديع هو جورج وسوف. كان حزنه عميقاً كحزن أبطال رواية الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر “الحزن العميق”، إن لم يكن أعمق. هو حزن وجودي في سلسلة أحزان الرجل الذي أعطى وجوده كشخص وكفنان الكثير الكثير لمن حوله ولمحبيه ومحبي فنه في العالم العربي قاطبة.
الحزن حق وهو حالة شعورية خاصة يعيشها المصاب بمرض أو بموت أو بفقر أو بمصيبة وباكتئاب وبألف سبب وسبب، لكن فقد الأحبة هو أشد أسباب الحزن لارتباطه المباشر بالقلب والروح. ومن هنا كان العزاء هو أحد أوجه مواساة الحزين وعونه على تخطي حزنه بحركة أو بكلمة أو بنظرة أو بضمة…
كان الوسوف، المعتلة صحته أصلاً، يبدو متماسكاً رغم دموعه ولوعته، كان قوياً بالاحتضان الكبير له ولعائلته وبالمحبين الكثر جداً الذين أظهروا تعاطفهم الكبير والصادق. الرجل كان محباً ومحبوباً وكذلك ابنه.
لكن على هامش هذا الحزن العميق برزت ظاهرة لافتة تتكرر عند كل مصاب يلمّ بفنان أو فنانة، هي “الفلتان” التلفزيوني على المناسبة الحزينة وكأنها فرصة لا تُعوّض. فعلتها التلفزيونات عند وفاة الفنان جورج الراسي بشكل مقزز أثار نفوراً واشمئزازاً كبيرين، وكررتها في عزاء الوسوف، وإن بشكل مختلف، لأن العزاء كان في الكنيسة وليس في منزل الفقيد.
ليس المطلوب أن لا تغطي التلفزيونات هذه المناسبات، الحدث يفرض نفسه والشخصية المعنية شخصية عامة وشهيرة ومحبوبة. التغطية واجب مهني فيه ناحية إنسانية، لكن تحويل تغطية العزاء إلى منافسة بين المراسلات والمراسلين على استنطاق المعزين والمعزيات من أهل الفن يتجاوز الواجب إلى قلة الاحترام والتنافس غير المهني. ماذا يمكن أن تسأل فناناً أتى ليعزي فناناً آخر بوفاة ابنه؟ هل تسأله عن شعوره مثلاً؟ هل تسأله ماذا سيقول له؟ أم تسأله هل كنت تعرف الفقيد؟ بالله ماذا يمكن أن تسأل هيفاء وهبي وهي داخلة لتعزي صديقها؟ (بالمناسبة هي قمعت المراسل الذي حاول أن يسألها). أو بماذا يمكن أن يجيبك وليد توفيق ونجوى كرم وراغب علامة وملحم زين ونوال الزغبي ومروان خوري وغيرهم بغير تمني الصبر للأب والرحمة للابن؟ كل هذا لا يحتاج لا إلى مراسلين ولا إلى مقابلات عند باب الكنيسة، أو في أي مكان عزاء.
شاهدنا الكثير من تغطيات التلفزيونات العالمية للتعازي بالمشاهير، كانت الكاميرات تصور المشاهد العامة المتاحة للجمهور باحترام كبير للمحزونين. لم تكن الكاميرات تدخل إلى غرف النوم وتقتحم خصوصيات الناس، أو تتربص بالمشاهير لإيقاعهم بالفخ واستنطاقهم في موضوع لا يحتمل الاستنطاق ولا التصريحات.
إنها حرب الرايتينغ بين التلفزيونات التي كسرت كل القواعد المهنية، والأخلاقية في أحيان كثيرة. السبق الصحافي، الذي لم يعد سبقاً صحافياً بل سبق خيل تعدو من دون خيالة، ما عاد فعلاً مهنياً محترفاً يحتاج خبرة ودراية وثقافة ومسؤولية.
في عصر الإعلام الحقيقي كان السبق الصحافي يهز بلداً، أما الآن فيهز خصراً. هذا المطلوب، هز الخصور. سقطت القواعد الصارمة التي كانت تحرس الإعلام من السقطات المهنية، لا بل أصبح السقوط والإسفاف معيار المهنية. اذهب وافعل أي شيء وقل أي شيء واملأ الهواء بالتّرهات. هذا ما نشاهده، ودعك من التعديات على اللغة وعلى الذوق والمشاعر ومن الغباء الذي لا يُحتمل.
من المسؤول؟ هل المراسلون والمراسلات أم المسؤولون عنهم في المحطات؟ كل يتحمل المسؤولية بقدر حجمه وموقعه، والأهم هو فهم الإعلام من منطلق المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية ومن منطلق القواعد المهنية ومن منطلق الذوق العام. الإعلام لعبة ذوق أيضاً.