اعتكاف الحريري: انسحاب من عمومية الحريرية
قبيل فتح صناديق الاقتراع، يظلّ حاضراً سؤال اعتكاف الرئيس سعد الحريري، ومتابعته التمسّك بهذا الاجتهاد السياسي، من خلال سلوك يخالف معنى الاعتكاف، ويحيل إلى معنى الانسحاب الذي تشوبه علامات كثيرة من مضمون التخلّي.
من خلال متابعة اليوميات النيابية، ظهر واضحاً أن سعد الحريري لم يلتزم بما تعنيه كلمة الاعتكاف، فهذا الأخير إقامة في مكان، أو انصراف إلى حالةٍ والتركيز على شؤونها. لقد تولّى تيار المستقبل، ومن تبقّى من الناطقين باسمه، أمر شرح الخطوة “الرئاسية”، بصفتها انسحاباً من مسؤولية خوض المعركة الانتخابية، مثلما اجتهد “المستقبليون” في التصّدي للخارجين عن الالتزام بمضمون القرار الفردي الذي اتخذه رئيسهم، لدواعي لا يعرفها إلاّ هو، ومن سُرِّبت مبرراتها إليه، من رَهُط “إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء”.
العودة إلى المنزل
أوّل ما يُسجّل على خطوة سعد الحريري، هو تخلّيه عن معنى عمومية الحريرية الأولى التي نشأت مع والده الراحل رفيق الحريري. لقد تميّزت فترات الحريرية الأولى في الحكم، بميزة الانتشار جغرافياً، وسَعَت إلى أن تكون عموميّة وطنيّاً… ودائماً حسب ما هو ممكن ومتاح ومفهوم، من وطنيّة عامّة في الوضع اللبناني المعلوم.
حقبة ما بعد اتفاق الطائف، سهّلت للحريري الأب سلوك دروب العمومية، من مدخل التسوية الداخلية التي وضعت حدّاً للحرب الأهلية، ومن مدخل إعادة الإعمار وتأمين الدعم اللازم لتمويله، ومن مدخل الدعم السياسي الدولي والعربي، الذي رافق وجود الرئيس الحريري في “ترويكا الحكم”، فبات تأمين الغطاء الخارجي أشبه بوكالة حصرية يرتبط استمرار مضمونها باستمرار الوكيل الأصلي الذي يمتلك حق التصرف بموجب مندرجاتها.
لقد لمس اللبنانيون العمومية الحريرية، وقرأ كثيرون في هذه العمومية سبباً لاستهداف الرئيس رفيق الحريري بالاغتيال، مثله مثل الذين حاولوا حياكة رباطٍ وطنيّ عام يتجاوز المنزل الطائفي الخاص، “إلى منازل لبنانية كثيرة”، فكان أن تجاوز بذلك، على سياسات الخارج الذي يريد التعامل مع لبنان “بالتجزئة”، لأن “الجُملة” العامة تتعارض مع أهدافه، وتعترض تطبيقها.
عليه، لم تكن الحريرية سُنيّة صافية، بل خرجت إلى ألوان مذهبية أخرى، فتزينت بها. ولم تمكث الحريرية في جغرافيا منابتها فقط، بل حملت متاعها “التوسطي” إلى جغرافيا كانت على حذر المساكنة وعلى هواجس التواصل…
في امتداد ذلك، أين يقع اعتكاف سعد الحريري في سياق الحريرية؟ ليس تجاوزاً الجواب بالقول، إن الوريث الحريري تراجع عن كثير من مغزى الميراث الذي تولّى إدارة شؤونه، وإنه الخلف الذي استعاد السلف من فضاء “البيت اللبناني”، فألزمه المكوث في منزل خاص، بعد أن أفلح في فكّ عدد من قيود وشروط الإقامة الدائمة فيه.
الخصام في المنزل
العودة “بالمستقبل” العمومي إلى “المستقبل” الخصوصي، حملت معها مناكفة الخصام والمجادلة، بعد أن تركت خلفها رحابة النقاش والحوار. تَرتَّب على ضيق مساحة الجغرافيا ضيق الصدر، وجرى استبدال عناوين السياسة حيال الخارج، بعناوين ضبط “البيت” الداخلي. لم يكن غريباً، والأمر ما هو عليه، أن تقتصر سياسة الرئيس المعتكف، على ضبط إيقاع وأداء، أفراد “العائلة” المستقبلية، وأن يتدحرج الوضع تباعاً، ليلامس حالة ترتيب شؤون الإمرة “الأبوية”، والتصدي لأولئك الذين يشقّون عصا الطاعة، على أمر “ربّ البيت”، فيرون غير ما يراه، ويذهبون إلى غير ما يذهب إليه. لقد عاين المتابعون بعضاً من أنماط الزجّر للمخالفين، بعضها ناعم، في صيغة إقالتهم “طوعاً”، وبعضها أقلّ نعومة في صيغة التبرؤ المسبق من استخدام اسم الوريث أو التيار في كل نشاط عمومي، وبعض الزجر في صيغة إشهار الخصومة ضدّ التجرّوء الذي لجأ إليه من قرأ في الانسحاب الحريري خطوة مضرّة، تخالف نتائجُها المبررات التي حملتها الشروح المقتضبة التي قدّمها المدافعون عنها.
أبعد من المسألة التنظيمية، وبالقول الملموس، فَنّد معارضو قراءة الحريري عنوانها المعلن، الذي يقول بحرمان “حزب الله من اكتساب غطاء الشرعية الرسمية”!! لقد أصاب المعارضون حين أعلنوا أن سياسة الانكفاء، أو التخلّي، تضيف إلى غطاء الشرعية التي يسعى إليها حزب الله غطاءً إضافياً.
استدراك معجّل
لم يُفت أوان استدراك سعد الحريري، ليحدّ من تفاقم الخسارة التي ترتَّبت على انسحابه. ولنذكُر في هذا المجال، أن الأمر مطلوب، لأسباب وطنية عامة وليس لأسباب خاصة تتعلق بهذه الفئة اللبنانية أو تلك. من الأسباب، الحرص على استدامة الاستقرار اللبناني، الذي يقف على مفترق طرق سياسية، قد تفضي به إلى نزاع مستحكم غير معلوم النتائج سلفاً. لذلك، فإن اللعب الخاص، أي وفقاً للحسابات الخاصة بمصالح فئة لبنانية أساسية، هي الكتلة السنية في هذه العجالة، هذا اللعب يتساوى مع التلاعب باستقامة الأحوال الوطنية العامة.
ومن الأسباب، أن “الوسطية” الحريرية الأصلية، لا تتفق وشعارية “الكسر” التي ترفعها منّوعات لبنانية، سيادية، وغير سيادية، في الوقت الذي تعلم فيه كل هذه المنوّعات عجزها عن القيام بخطوة إصلاحية متواضعة، بسبب من فقدان “النصاب” التوافقي الجمعيّ، فما بال هؤلاء عندما يتعلق الأمر بكلام استعادة الدولة، ومحاربة الدويلة، ومطاردة الفاسدين، واعتماد الحياد، وطلب نجدة التدويل… وما سوى ذلك، مما يشكل وصفة جاهزة لاستثارة انقسامات لبنانية عميقة، وتشكّل محاور تقودها سياسات داخلية وخارجية خطيرة وعميقة!!
في الانتظار: سعد الحريري المعتكف مطالب بتحمل مسؤولية الدعوة إلى المشاركة الواسعة في الانتخابات، من أجل لبنان ما بعد 16 أيار الحالي. هذا إذا أراد أن يكون ذا حضور مسؤول في هذا الما بعد الزماني.
المصدر: المدن