محليات

هذه قصة لبنانية رهنت منزلها.. لتتنفس فقط!

كتبت أسرار شبارو في “الحرة”:

من أجل علبة دواء رهنت منى عرب منزلها، لم تجد أمامها سوى هذا الخيار وإلا فالاختناق مصيرها وربما الموت، هي اليوم تحتاج إلى علبة جديدة من دون أن يبقى لديها ملكا لرهنه، تجد نفسها عاجزة عن التقاط أنفاسها بسبب التليف الذي أصاب رئتيها قبل حوالي السنة قالبا حياتها. 

داخل أزقة مخيم سعيد غواش في العاصمة بيروت تعيش اللبنانية منى في فقر مدقع ومرض مؤلم، لا سبيل أمامها للخلاص إلا كما قالت بمعجزة تنتشلها مما هي فيه، في كل لحظة تشعر أن الموت يتربص بها ويتحين الفرصة للانقضاض عليها، في وقت تقف فيه مكتوفة اليدين، أولاً لأن الدواء غير متوفر في لبنان، إذ كلما قصدت وزارة الصحة تسمع الجواب  ذاته “لم يصل منه بعد”، فيما يبلغ سعره خارج البلد 3,142، اشترته لمرة واحدة فقط وكان الثمن الفعلي أنها مهددة الآن بالطرد من منزلها. 

تخشى الوالدة لخمسة أبناء من أن يعجز زوجها عن تأمين مبلغ الرهن، وأن يكون الشارع مصيرها وعائلتها، وقالت: “سعر الدواء في لبنان 4 مليون ونصف المليون ليرة، أي 3 آلاف دولار على سعر الصرف الرسمي، من هنا عندما قررت شرائه من الخارج دفعت ثمنه باهظاً، وأنا أندم لاتخاذي هذه الخطوة”.

وأضافت “سدت كل الأبواب في وجهي حينها، أردت أن ألتقط أنفاسي، أن أعيش من دون ضيق تنفس، أن أبعد الموت عني، اعتقدت أنه إذا اشتريته لمرة ستعاود وزارة الصحة تأمينه وهو ما لم يحدث”.

ولدى سؤالها عن البديل أجابت منى: “للأسف لا يوجد”.  

في غرفتين ينهش الفقر كل شبر وزاوية فيهما، تعيش منى مع زوجها وابنتيها المطلقتين وثلاثة أحفاد، تجلس على الكنبة وإلى جانبها كيس مليء بـ”الهموم”، تشير إليه، بأنه أصبح ملازماً لها منذ أن باغتها المرض، تفتحه وتبدأ بإخراج معاينات الأطباء والصور الشعاعية.

بغصة تخنق صوتها قالت: “أذكر يوم أطلعني الطبيب أنني مصابة بفيروس كورونا الذي تسلل إلى رئتي، لأبدأ رحلة علاج باهظة الثمن، يحتاج إنهاؤها إلى إجراء عملية تكلفتها 8 آلاف دولار، وأنا لا أملك فلساً واحداً”. 

منى واحدة من غالبية كبيرة تئن قهراً بسبب الأزمة التي يمرّ بها لبنان، قصتها تشبه عدد كبير من القصص لأناس كانوا يعيشون حياة متواضعة وإذ بهم يجدون أنفسهم عاجزين عن شراء أهم الحاجيات. تمنت لو أن الفقر وحده هو الذي تسلل إلى منزلها.

تقول منى: “يمكن أن يعتاد الانسان على القلّة، لكن أن يصاب بصحته فهذا أسوأ ما قد يواجهه، فما أعيشه تجربة مريرة، أثبتت لي أن أهم ما في الحياة هو الصحة، وبعدها يهون كل شيء، فكيف إن كنا في بلد تكون فيه الطبابة والاستشفاء حكراً على الأغنياء. الدولة غائبة وعاجزة عن تأمين الدواء، والنتيجة أن كل مريض فقير سيذل ولن يتمكن من العلاج”.  

بدأت أزمة نقص الأدوية في لبنان عام 2020، بسبب عدم توفر الدولارات اللازمة في المصرف المركزي لدعمها، ما دفع الحكومة إلى اتخاذ قرار رفع الدعم الجزئي والكلي عن معظمها في شهر نوفمبر الماضي.

حينذاك اعتقد اللبنانيون أن الأدوية ستكون في متناول اليد، لاسيما مع الارتفاع الكبير في أسعارها، ليصطدموا بالواقع، وبأن عدداً منها لا يزال مفقوداً. 

واعتبرت منظمة العفو الدولية، في ديسمبر الماضي، أن “السلطات اللبنانية تتقاعس عن حماية الحق في الصحة والحياة للمواطنين في خضم أزمة مستمرة جعلت المرضى غير قادرين على تحمل تكاليف الأدوية الأساسية، أو الحصول عليها”.

وأضافت “رغم أن الحكومة كانت تدرك ضرورة رفع الدعم، فهي تقاعست عن وضع خطة حماية اجتماعية لضمان استمرار توفر الأدوية الأساسية”. 

كذلك يعاني زوج منى من عدة أمراض “أعصاب وضغط وسكري، هو الآخر يحتاج إلى أدوية لا يستطيع تأمينها، ومع ذلك يضعني كأولوية، يفضل طرق أبواب الجمعيات من أجلي. يوميا أذل وإياه من أجل ما يعتبر أبسط حقوق الانسان”.

وفيما إن كان لديه عمل أجابت: “يبيع سكاكر في دكان صغير عند مدخل المخيم، وما يجنيه لا يكفي لشراء ربطة خبز”. 

قبل الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان عام 2019 والتي صنفها البنك الدولي بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850، كان وضع منى المادي صعباً ومع هذا قالت: “كنا نأكل ونشرب ولا نحتاج أحدا، لكن مع ارتفاع سعر صرف الدولار لم يعد بإمكاني شراء الطعام، فمن ذلك الحين لم نتذوق اللحم والدجاج والسمك والفاكهة”. 

وأضافت “لدي فرن صغير أضعه على الدرج، أتدبر به أمري، فلا مال لشراء أفضل منه ولا توجد مساحة كافية لتخصيصها مكاناً له”.

تصمت قليلاً قبل أن تقول بحرقة: “حتى إن قررت الطبخ فأقصى ما باستطاعتي إعداده البطاطا المقلية التي أصبحت هي الأخرى مكلفة، فالكيلو منها بـ13 ألف ليرة”. 

غسالة ملابس منى تكاد تكون أكبر من المطبخ، نقترب لالتقاط صورة لها، فتحذرنا من لمسها كي لا نصاب بصعقة كهربائية، قائلة: “بتكهرب”! لكن ألا تخشى على نفسها وعلى أحفادها من ملامسة الموت؟ عن ذلك أجابت “تصليحها في هذه الأيام يحتاج ميزانية، لذلك أفصل الكهرباء عند الاقتراب منها”. 

حتى النوم على سرير مريح محرومة منه منى، فبعد نهار طويل تمضيه في البحث عن حل لمعاناتها من دون أن تنجح حتى اللحظة، تمد فراشها أرضاً لتتقلب على آلامها النفسية والجسدية، وفوق هذا يعاندها دماغها رافضاً التوقف عن التفكير في حالها، يتملكها الخوف من أن تلفظ آخر أنفاسها، يومياً تشعر أن الصباح لن يشرق من جديد وسترحل إلى البعيد. 

لدى منى شابان، ظروفهما المادية صعبة جداً “أحدهما يعمل في دار للمسنين براتب مليون ونصف المليون ليرة والآخر ميكانيكي سيارات، كلاهما مسؤول عن عائلة، وبالكاد يمكنهما تأمين جزء بسيط من احتياجاتها، لذلك كما قالت: “لا أعول عليهما، فهما يحتاجان لمن يساعدهما، فقبل الأزمة لم يكن بمقدورهما مساندتي فكيف بعدما أصبح كل شيء باهظ الثمن ما عدا الإنسان”. 

بحسب آخر دراسة أصدرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا” أصبح “الفقر يطال 74 في المئة تقريبا من مجموع سكان لبنان، وعند النظر لأبعاد أوسع من الدخل، كالصحة والتعليم والخدمات العامة، تصل نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى 82 في المئة من السكان”. 

ما أدى إلى ذلك بحسب “الإسكوا” هو “الصدمات المتداخلة لسعر صرف الدولار، الذي كان ثابتا منذ مطلع القرن، ما ولّد ضغوطا هائلة، فانخفضت قيمة العملة وارتفعت معدلات التضخم، فتدنى المستوى المعيشي للسكان اللبنانيين وغير اللبنانيين، وانتشر الحرمان”.  

لا تريد منى من هذه الحياة سوى الصحة، وألا تضطر إلى طلب المساعدة من أحد، تحلم أن يأتي اليوم الذي تشفى فيه ولا تحتاج إلى حبة دواء، وما يستتبع ذلك من حاجة الناس التي هي صعبة في الأساس، فكيف إن كانت في هذا الزمن الذي يمر على البلد! 

المصدر : الحرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى