لماذا أوكرانيا هي “مستودع البارود” لتفجير العالم؟
بين الكثير ممّا يُكتب ويقال ويُروى عن موضوع أوكرانيا الذي يشغل العالم اليوم، هناك أمور اساسيّة ينبغي التوقّف عندها لإجلاء موضوعين أساسيّين لفهم ما يجري في أوروبا الشرقيّة ومن ثم في بقية أنحاء العالم:
الموضوع الأوّل: ما هي المعطيات التي جعلت، أو تجعل، من جمهوريّة أوكرانيا ما يسمّيه علماء الجيوبوليتيك، برميل البارود لتفجير العالم ؟
الموضوع الثاني: وهو بذات الخطورة، إذا لم يكن أشد، ويكمن في محاولة تفسير وتبرير كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خلال لقائه الرئيس البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو (18/2/2022) عندما أشار الى تدريبات واسعة وشاملة لقدرات الردع الروسيّة بما في ذلك الردع الاستراتيجيّ النوويّ، وإنّه من الأمور النادرة قيام روسيا بالتذكير بقدراتها النوويّة!
اولاً: أوكرانيا .. وبرميل البارود!
1 – كان الاتحاد السوفياتي يتألّف من خمسة عشر كياناً سياسياً: الجمهورية الاشتراكية الاتحاديّة لروسيا وحولها أربعة عشر كياناً سياسياً، تحوّلت كلها الى جمهوريات مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، بين هذه الجمهوريات توجد جمهوريّة أوكرانيا وجمهوريات: مولدافيا، بيلاروسيا وليتوانيا وليتونيا واستونيا وجورجيا وارمينيا وتركمانستان وكازاخستان وكيرجستان واذربيجان واوزبكستان وطاجيكيستان.
2 – السؤال هو: ما الذي يميّز جمهورية أوكرانيا عن سواها من الجمهوريات الثلاث عشرة ويجعلها بالتالي في صدام مع الجمهورية الروسيّة؟ هذا السؤال يفرض العودة الى الواقع الجيو- سياسي لأوكرانيا وبشكل خاص الى العوامل التي تحكم علاقتها بجمهورية روسيا الاتحاديّة وعلى رأسها الآن الرئيس فلاديمير بوتين.
3 – من حيث واقعها الجغرافي تتميّز أوكرانيا بأمرين أساسيين:
موقعها: في شبه مستطيل يمتدّ من الزاوية الشرقية – الجنوبية للقارة الأوروبيّة، من شواطئ البحر الأسود الشمالية وبحر آزوف بحدود تصل الى 2782 كلم ومجاورا سبع دول هي: روسيا، بيلاروسيا، هنغاريا، مولدافيا، بولندا، رومانيا وسلوفاكيا. هذا الجدار يمثل مدى تفاعل الكيان الأوكراني مع الكيانات الأوروبيّة. وبالتالي فإن هذا التفاعل يعكس الاصالة الأوروبيّة لأوكرانيا كياناً وشعباً، وهو ما ينعكس الآن في الموقف الأوروبي تجاه الأزمة الأوكرانية.
• مساحتها: هي من أكبر الدول الأوروبيّة مساحة بعد روسيا إذ تبلغ مساحتها 603700 كلم2 أي أكبر من فرنسا. مع ميزة معروفة لدى شعوب العالم، ومنها الشعب اللبناني، وهي ان أوكرانيا هي اهراء القمح للعديد من الدول ومنها لبنان بفضل سهولها الخصبة.
4 – أمّا من حيث واقعها الديموغرافي البشري، فإنّ عدد سكانها بحسب المعاجم هو 51,704 مليون نسمة. 73% منهم أوكرانيون و 22% روس. الديانة: الارثوذكسيّة، واللغات: الأوكرانيّة والروسية والرومانيّة والعاصمة: كييف.
هذه المعلومات تبدو عادية لدى قراءتها ولكنها في علم الاستراتيجيا تعكس مسائل اساسيّة وهي ان أوكرانيا هي وكانت، دولة مركزية في الاتحاد السوفياتي وليست دولة طرفية كبقية الدول الثلاث عشرة. فالدول الثلاث عشرة الأخرى اشبه بأحجار معلقة في العقد المحيط برقبة روسيا ولكن أوكرانيا بتركيبتها الجغرافية والبشرية تشكّل جزءاً من طبيعة روسيا بالذات. إنّها جزء من الأساس، من الأصل، وليست من الهامش. من هنا مدى تأثيرها على الحكم في الكرملين داخل الاتحاد وخارجه. ان ثقلها الجغرافي والبشري يجعل كل مسؤول في موسكو مضطراً لأخذها بالاعتبار لدى ترسيم سياسته الداخليّة والخارجيّة.
5 – ان الحالة الأوكرانيّة يصح فيها القول: “إن أزمة الأقليّة هي قبل كل شيء أزمة الأكثريّة” وهذا ينطبق على الأقليّة الروسيّة والأكثريّة الأوكرانيّة. فالرئيس بوتين يدمج في شخصه ما بين القوميّة الروسيّة والديكتاتوريّة العسكريّة لرجل عمل في المخابرات وتعاطى مع السلطة في الكرملين على أنه القائد والزعيم الذي لا بديل منه ولا يستغنى عنه. لذا وضع يده على السلطة رئيساً للجمهورية، ثم رئيساً لمجلس الوزراء، ثم رئيساً للجمهوريّة كي يبقى أطول مدّة ممكنة في حكم روسيا. وكان من الطبيعي ان يسعى لتدجين أوكرانيا التي كانت ترفض الاملاءات السياسيّة والألاعيب الدستوريّة التي تسمح له بحكم روسيا عشرات السنين.
6 – في سياق هذا الصراع المحلي – الاقليمي – الدولي بين روسيا وأوكرانيا وحولهما، اختبر الرئيس بوتين موقف الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركيّة ومعها اوروبا حول ضربة ممكنة على شكل اجتياح عسكري لأوكرانيا. جاءه الجواب حاسماً من كافة الأمم وفي العالم الأقربين منهم والأبعدين. وخلاصته: وضع روسيا في قفص العقوبات الاقتصادية مع ما يرافق ذلك من مواجهات سياسيّة وعسكريّة. لقد كان بوتين يتصدّر أنه قادر على تكرار أمثولة أزمة الصواريخ في كوبا في بداية الستينات ممثلاً الدور الذي قام به الرئيس جون كندي وأجبر روسيا على سحب صواريخها من كوبا تحت تأثير القيام بتدميرها عسكرياً. ولكونها تقع ضمن الخط الأحمر للاستراتيجيّة الدفاعية الأميركية.
وهذا هو وضع أوكرانيا الآن بالنسبة لروسيا إذ أن سعيها للانضمام الى حلف الناتو اي: تمدد الحلف الى حدود موسكو، يشكّل تجاوزاً للخط الأحمر للاستراتيجيّة الدفاعيّة الروسيّة!
6 – في ازاء هذا المأزق الدولي، ووقوف العالم، ما عدا الصين، الى جانب أوكرانيا والتحالف الغربي، أعاد الرئيس بوتين حساباته وتكتيكه السياسي – العسكري: الاستمرار في الموقف المتصلب من أوكرانيا ولكن ليس من باب الدخول عليها من خارج، بل الدخول اليها من داخل: أي باستغلال الأقليات الروسية المتواجدة بنسب واضحة في بعض مقاطعات أوكرانيا ولا سيما: دونيتسك (أكثر من 75% روس) ولوغانسك (بين 50 و75% روس) الواقعتان شرق أوكرانيا وعلى الحدود الأوكرانية الروسية. ومع اعلانهما الثورة على حكم كييف العاصمة سارع الرئيس بوتين الى توقيع مرسوم الاعتراف بهاتين الجمهوريتين الانفصاليتين من أوكرانيا. بهذا يكون الرئيس الروسي:
.
– قد حقق انتصاراً جزئياً في المسألة الأوكرانية.
– تجنب حرباً شاملة ستمتد الى مختلف أنحاء العالم .
– حوّل المشكلة الى مشكلة داخلية في أوكرانيا.
– وفتح جرحاً دامياً ووجوديّاً في صلب التركيبة الأوكرانيّة ممّا يساهم في إضعاف اوكرانيا وإشغالها لفترة طويلة ( في جسدها).
– سحب الذريعة من يد اعضاء حلف الناتو حول تدخّل روسيا الخارجي في شؤون دولة مستقلة هي أوكرانيا، الى العكس تماماً: تدخل أوكرانيا في شؤون دولتين مستقلتين هما دونيتسك ولوغانسك!
ثانياً: بوتين وقدرات روسيا النوويّة!
وجد الرئيس بوتين نفسه مضطراً الى التذكير بقدرات روسيا النوويّة رداً على التحالف الدولي ضد روسيا في موضوع أوكرانيا. وهذا التذكير له معانيه وأبعاده الجيو- استراتيجيّة: ذلك ان روسيا تملك ما يعادل الضعفين مما تشكّله الولايات المتحدة من الرؤوس النوويّة. ففي كتاب، جيوبوليتيك العالم المعاصر تتوزع القنابل النوويّة في دول العالم كما يلي
روسيا: 4630 قنبلة
اميركا: 2468 قنبلة
(مع اشارة لا بدّ منها وهي ان اسرائيل تملك 200 قنبلة نووية وتصنّف خامس قوّة نووية في العالم).
إن تذكير بوتين بالقدرات النووية يهدف الى تذكير العالم بأنه يملك القوّة الأساسية في الصراع العسكري والتي ينبغي على الجميع: دولاً وأحلافًا النظر اليها وأخذها بالاعتبار في كل سياسة تتصل بالموقف من روسيا في العلاقات الدوليّة.
باختصار كلي، لقد شاء بوتين ان يقف في منتصف الطريق بين تطرّفين: عدم فعل اي شيء.
أو الدخول في حروب نوويّة تدمّر الحضارة الانسانيّة..
ولقد اختار الوقوف في الوسط ومع انه عسكري راديكالي لا يحب الأمور الوسطى بل ينسجم مع المواقف الراديكالية، فقد وجد نفسه بعد كل تمحيص ودراسة، مضطراً لأن يعلن الحرب الأقلية داخل أوكرانيا على الحرب النووية داخل العالم… وهذا هو معنى اعترافه بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك!