انعكاس الأزمة الاقتصادية في لبنان على المسنين
أدّى استفحال المحاصصة والهدر والفساد الحكومي المستشري في لبنان طيلة ثلاثين عامًا إلى إغراق البلد في حالة شلل اقتصادي، بحسب خبراء البنك الدولي. فالأزمة اللبنانية التي تصنَّف ضمن أكثر الأزمات حدّة على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، تسبّبت بإفقار أغلبية اللبنانيين، ولو بنسب متفاوتة. وأتى ذلك نتيجة انهيار العملة وما تبعها من ارتفاع أسعار المواد الغذائية مقابل تهاوي الدخل الفردي، إضافة إلى تراجع قطاع الرعاية الصحية ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية، وتوقّف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن تسديد الفواتير الطبية للمشتركين في ظلّ اقترابه من الإفلاس.
أرخت الأزمة الاقتصادية بظلالها على اللبنانيين وتمكّنت من إعادة هيكلة الطبقات الاجتماعية للسكّان عبر خلق طبقة الأغنياء الجدد الذين ازدادت ثروتهم خلال الأزمة، مقابل تقلّص الطبقة الوسطى وتراجع نسبتها من 70% إلى 40%، فيما بلغت نسبة الفقراء اليوم 30% من السكان، مع ارتفاع نسبة اللبنانيين المدرجين ما دون خط الفقر، بحسب ما أفادنا الباحث في العلاقات الدولية “محمد شمس الدين”. وعلى الرّغم من أنّ اللبنانيين بشكل عام ذاقوا مرّ هذه الأزمة، إلَّا أنّ الكأس الأمرّ كانت من نصيب المسنّين الذين يشكّلون 15% من السكان والذين وجدوا أنفسهم مهمشين ومتروكين لمصيرهم، فلم يعد أمامهم سوى العيش على رجاء قيامة ضمائر المسؤولين لانتشالهم من القعر الذي أغرقوهم فيه.
لطالما كان الاهتمام الرسمي بالمسنّين في لبنان محدودًا والعناية الصحية ضئيلة، غير أنّ الوضع الحالي بات شبه مأساوي مع تفاقم الأزمة. فكيف يواجه المسنّون اليوم تداعيات الأزمة الاقتصادية من الناحية الصحية؟
ورد في دراسة أعدّتها الأمم المتحدة بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية أنّه وبحسب نُظم الضمان الصحي وخدمات الصحة والرعاية الموجودة في لبنان، يفترض بالمسنّين التمتّع بإحدى الخيارات الصحية المتاحة، مثل التغطية الصحية المؤمنة عبر تعاونية موظفي الدولة أو صناديق التعاضد للمتقاعدين، أو عبر بعض النقابات، أو من خلال شركات التأمين الخاصة، أو تغطية وزارة الصحة للمواطنين غير المستفيدين من أي نظام ضمان صحي خاص أو عام، أو تغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للمضمونين بعد سن التقاعد، إضافة إلى تأمين الخدمات الصحية من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية. غير أنّ معظم المسنّين اليوم باتوا يواجهون غيابًا لضمانات التغطية الصحية بفعل انهيار أنظمة الدعم والرعاية الموفّرة من خلال البرامج الحكومية أو القطاع الخاص، وهذا ما دفع بالجمعيات غير الربحية ومؤسّسات رعاية المسنّين إلى التدخّل في محاولة لتخفيف وطأة الأزمة.
إلّا أنّ هذه المؤسسات تعاني بدورها من نقص حاد في التمويل بسبب تقاعس الدولة، أو حضورها شبة الغائب. فقد علمنا من خلال اتّصال أجريناه مع الأستاذ “ساسين دحدح”، أحد المسؤولين عن بيت العناية الإلهية في زغرتا، أنّ وزارة الشؤون الاجتماعية تقدّم مبلغ 17.500 ألف ليرة كبدل إقامة يومية للمسنّين في حين أنّ التكلفة اليومية تتخطّى ال400.000 ألف ليرة ما يجعل الدار تعتمد على تبرعات المقتدرين من المحليين ودول الانتشار للمحافظة على جودة خدماتها الغذائية والطبية والاجتماعية، فالخدمة متوفرة ليل نهار والنظام الغذائي ما زال محافظًا على مكوّنات باتت شبه نادرة كاللحوم والدجاج، إضافة إلى توفر خدمتي التدفئة والتبريد المستمرتين. غير أنّ الدار التي تقدّم الخدمة المجانية لثلاثين مسنّة تشهد ازديادًا ملحوظًا في طلبات الانتساب إليها بسبب ارتفاع حالات الفقر والجوع والتشرّد، إلّا أنّها غير قادرة على استقبالها بسبب قدرتها الاستيعابية. من جهة أُخرى، تواجه الدار صعوبة في تأمين الدواء بسبب انقطاعه أو ارتفاع سعره، ما يدفعها إلى طلب تأمينه من ذوي المسنّات أو من خلال حملات تبرعيّة. يضاف إلى ما سبق صعوبة نقل المسنّات إلى المستشفيات في ظل غياب النقل الطبي. باختصار، يقول دحدح، “الطلبات تزداد ولا تقل، والوضع يسوء ولا يتحسّن، والدولة تعاين نظريًا دون أن تساعد، فلولا جهود المتبرعين وأصحاب الأيادي الخيّرة لكنّا أغلقنا منذ زمن”.
وفي حديث آخر أجريناه مع الأستاذ مالك مارون، مسؤول دار الرعاية الماروني في فرن الشبّاك، علمنا أنّ الدار تعاني أيضًا من غياب الدولة، فبحسب قوله “في الوقت الذي بلغت فيه كلفة المسنّ الشهرية نحو 500 دولار وفي ظلّ عدم قدرة الكثير من أهالي المسنّين على تأمين التكلفة اللازمة، لا تسهم وزارة الصحة إلّا بحوالي نصف دولار يوميًا ووزارة الشؤون بأقل من ذلك، ويتمّ التأخير في دفع المستحقات أحيانًا لتتجاوز الفترة أكثر من سنتين، لذلك يتمّ الاعتماد على المساعدات والمبادرات الفردية. هذا فضلًا عن النقص في الموظفين بسبب تدنّي الرواتب نتيجة غياب الدعم المالي”.
وفي مقابل محاولة صمود بعض دور الرعاية في وجه الانهيار الاقتصادي، تشهد دور أُخرى تراجعًا واضحًا في خدماتها التي باتت تقتصر على الأساسيات الضرورية للعيش فقط.
صحيح أنّ لا إحصاء يُظهر نسبة الفقراء من مسنّي لبنان إلّا أنّ وجوه أغلبهم كفيلة بإظهار خيبتهم وألمهم. فما الحلول الممكنة لتحسين أوضاع المسنّين؟
إن وزارة الصحة العامة تؤمّن برامجَ لخدمة المسنّين، كبرنامج خدمات الأمراض غير الانتقالية الذي يهدف إلى الكشف المبكر عن الأمراض غير الانتقالية وتشخيصها، مثل السكري وارتفاع ضغط الدم والدهنيات والكولسترول وتأمين أدوية هذه الأمراض المزمنة. هذا وتوفّر وزارة الشؤون الاجتماعية لكبار السن مراكزَ للمعاينات الطبية وللأدوية بشكل مجاني، إضافة إلى خدمة المأوى والرعاية اليومية لما يقارب 30 مؤسّسة رعاية اجتماعية، واستِفادة 16 ألف مسنّ تقريبًا من تقديمات “برنامج الأسر الأكثر فقرًا”.
غير أنّ هذه الحلول غير كافية للاعتناء بالمسنّين وتأمين مستلزماتهم، من هنا تؤكّد المؤسسة الدولية لكبار السن ومنظمة العمل الدولية ضرورة “اعتماد معاش شيخوخة غير قائم على الاشتراكات يكفل حدًا أدنى مـن الدخـل لجميـع كبار السـن في لبنان، ويسهم في تأمين عيش كريم للعاملين في القطاعات غير الرسمية. هذا بالتوازي مع إصلاح نظام تعويض نهاية الخدمة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتحويله إلى نظام معاشات تقاعدية للعاملين في القطاع الخاص”.
هكذا إذًا نُهبت أموال المسنّين كسائر اللبنانيين، وقُطعت أدويتهم، وفُقد حقهم في الطبابة، وباتوا يواجهون زمانًا أراده السياسيون أن يكون جحيمًا على الجميع إلّاهم. فتهالك الاستشفاء العام وغلاء الاستشفاء الخاص وتقصير الرعاية الصحية وغياب ضمان الشيخوخة وتفاقم الأزمة الاقتصادية، دفع ببعض المسنّين إلى صرف ما تبقّى من مدّخراتهم للتمّكن من العيش، أو الاتّكال على ذويهم لإعالتهم معيشيًا وصحيًا، فيما بحث مسنّون آخرون عن عمل يحفظ كرامتهم وإن على حساب صحتهم المتواضعة، هذا وحتَّمت الأزمة الاقتصادية على عدد من مسنّي لبنان افتراش أرض بلدهم علَّ يد مقتدر تغطّي عوزهم، بينما فقد قسم آخر أمله بعيش “آخرة” منصفة تكافئه على وفاء سنين طويلة أمضاها في خدمة بلد خانه سياسيوه وتآمروا على قتل مسنّيه حتى لا يبقى منهم سوى همس يستغيث موتًا رحيمًا… فهل من يسمع؟