الانتخابات في مناطق الأطراف: الأحزاب تستظل بالعائلات

الانتخابات في مناطق الأطراف: الأحزاب تستظل بالعائلات
يبدو السؤال عن مدى حضور عامل القرابة في السياسة وكأنه سؤال لا لزوم له في بلد تحتفظ فيه نحو دزينة من العائلات السياسية بحضور بارز في الحياة العامة، وتتوارث هذا الحضور منذ عشرات السنين، فيما تستعد عائلات جديدة للانضمام إلى هذا التقليد. فالزعيم لا يرث اللقب من أسلافه وحسب، وإنما يرث أيضًا جمهورًا جاهزًا يمنحه الولاء ويبايعه على الطاعة. واللافت أن علاقة القرابة بالسياسة تنتظم على طريقة “الدمى الحوامل”، حيث تحتوي بعضها البعض، وتتسلسل من الأكبر إلى الأصغر: تبدأ من العشيرة، ثم العائلة، فالأفخاذ، فالأجباب، فالبطون، وصولًا إلى ما يُسمى (من باب تجميل الاسم) بالعائلات الروحية، أي الطوائف. هذه الطوائف، بحكم القوانين والأعراف، تتحول إلى نظام تمثيل مخصوص يتطلب الحفاظ على الولاء العصبي، ما ينتج كيانات مستقلة ومتجانسة تحدد هويتها وتتمايز عن الطوائف الأخرى، فتطغى الانقسامات العمودية على حساب التراتبية المجتمعية.
وبهذا الانتظام المؤسسي، تتجاوز الطوائف كونها جماعات دينية، لتصبح وحدات نفوذ تتحدد قوتها بمدى احتكارها لقنوات الحصول على المنافع والخدمات، أي عبر التنافس على تعزيز حصصها في السلطة التنفيذية والإدارة العامة، نزولًا إلى الوظائف الدنيا. وإذ تبدو هذه الطوائف وكأنها تتغذى من رصيد بعضها، إلا أنها في الحقيقة تنوب عن الدولة وتقتسم وظائفها.
لمن المرجعية في المناطق؟
لا تفوّت القوى النافذة أي فرصة لاستثمار التداخل القائم بين التنظيم السياسي وأطر القرابة، بما في ذلك إضفاء بعد سياسي على الطقوس والمناسبات الاجتماعية. وهو تداخل يبرز بوضوح في الاستحقاقات الانتخابية، خصوصًا في الانتخابات البلدية والاختيارية. ففي المناطق البعيدة عن العاصمة بيروت، يتعزز حضور عامل القرابة كلما ثبتت الأطر التقليدية وطغت الأساطير القروية ورموزها على المشهد، ليشبه لبنان بذلك الدول التي تقوى فيها الدولة في المركز وتضعف كلما ابتعدت نحو الأطراف. وتواجه القوى السياسية تحديًا في إثبات هيمنتها على “مناطقها” بوصفها المرجعية الوحيدة، حتى على حساب الدولة، التي تجد نفسها مضطرة لطلب الإذن لقمع مخالفة بناء أو لاعتقال مطلوب.
في هذا السياق، تصبح الانتخابات البلدية لحظة انبعاث للتقاليد، حيث لا شيء يتم بالمجان: فالأطر القرابية لا تتبنى مرشحيها إلا إذا انخرطوا في ثقافة المجموعة وتقاليدها وقيمها من حماية وتآزر. المساعدات التي يتلقاها الأفراد ليست بلا مقابل، بل يُنتظر منهم تقديم الولاء والطاعة، ويُقاس وزن الفرد بوزن عشيرته.
وعلى حُسن أو سوء اختيار المرشحين باسم عائلاتهم، يتوقف رضى القوى السياسية، التي تتولى لاحقًا تدبير العلاقة بين السلطات المحلية والمركزية، وهو تدبير أيضًا لا يتم بالمجان. إنه سياق علائقي معقّد، يُضطر فيه السياسي للتخفي خلف العباءة الأهلية، وتُستخرج من الأطر القرابية كل عصبيات الانتماء، وسط تسويات وتنازلات متبادلة:
تريد القوى السياسية للبلدية أن تكون حلقة وصل في تشكيل المجال السياسي، لكنها تتخفى وراء مصالح القرية وتتبنى شعار “توافق العائلات”. أما البُنى القرابية، فتعرف الأبعاد السياسية للانتخابات، لكنها تعتمد خطابًا إنشائيًا تغلب عليه العاطفة، مع شيء من المرونة التي تسمح بترشيح الطبيب، أو الضابط المتقاعد، أو المحامي، أو الأستاذ، أو الميسور، ما دام بإمكانه أن يعزز مكانة الدائرة القرابية.
التعايش الصعب مع المجتمع الأهلي
تحيل مفردة المجتمع الأهلي إلى الأهل، أي إلى النسب والعشيرة والطائفة والحي، أي إلى كل ما هو موروث ومفروض وماضٍ، بينما يحيل المجتمع المدني إلى المستقبل وإلى ما ينتج عن حرية الاختيار، بما يعمّم قيم المواطنة والعدالة والديمقراطية. وبسبب الحرب وما نجم عنها، اجتاح المجتمع الأهلي العالم السياسي، فسيطر على الإعلام والنقابات والمؤسسات التربوية. وكانت الحصيلة طغيان الهويات الجزئية، وانهيار مساحات التلاقي، وترييف المدن، ما أبقى لبنان في حالة انتقالية بين تقليد لم ينتهِ وتحديث لم يكتمل، حيث تتعايش التقاليد مع القوانين، ويتواجد المجتمع الأهلي جنبًا إلى جنب مع المجتمع المدني، في علاقة ملتبسة تتسم بالصراع والمصادرة المتبادلة.
ومن هنا، فإن أولى مهام المبادرات الديمقراطية والمدنية التي تخوض الانتخابات المحلية هي الارتقاء بالخطاب الانتخابي، وتخليصه من البُعد العاطفي والشعارات الفارغة، والتخفيف من الاحتقان العائلي الذي يحوّل الانتخابات إلى مناسبة لإحياء الضغائن وإلغاء التنوع. ويقاس نجاح هذه المبادرات، ليس فقط بمدى الفوز بالمقاعد، بل بقدرتها على إدخال خطاب جديد يستحضر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ويطرح قضايا الناس المعيشية، مثل الحق في بيئة نظيفة، وفي العيش الكريم، وفي التنمية والثقافة وتحسين جودة الحياة، والمشاركة الفعلية في وضع الأولويات وصوغ البرامج، والحق في الموازنة التشاركية والمحاسبة والمساءلة.
والأهم أن تبقى أعين هذه المبادرات على الهدف الأبعد: جعل الانتخابات وسيلة لوصل المجتمعات المحلية بالدولة، التي وحدها تمنح الهوية الجامعة، وتعيد الأديان والانتماءات إلى وظيفتها الطبيعية في تنظيم علاقة الإنسان بخالقه.
فؤاد الديراني – “المدن”