اهم الاخبار

أطلقت شرارة الحرب الأهلية..هذه قصة بوسطة عين الرمانة

أطلقت شرارة الحرب الأهلية..هذه قصة بوسطة عين الرمانة

كتبت زيزي إسطفان في نداء الوطن:

الزمان: الأحد 13 نيسان 1975، المكان: عين الرمانة شارع مارون مارون، المناسبة: تدشين كنيسة سيدة الخلاص للروم الكاثوليك، المدعوون: الشيخ بيار الجميل، الرئيس كميل شمعون، رئيس بلدية الشياح مارون مارون وفاعليات المنطقة، المنظمون خلايا الطلاب في حزب الكتائب، أما المشاركون فأبناء عين الرمانة وشباب الكتائب والأحرار. هكذا كانت الصورة الزاهية صباح ذلك اليوم لتتغير ألوانها ظهراً وتكتسي بالأحمر فالأسود بعد مرور البوسطة، وتتحجر من ثم في أذهان الناس وأرشيف الحرب اللبنانية على مدى خمسين عاماً.

وصل سمير، تلميذ ثانوية سعيد، إلى شارع مار مارون قرابة الساعة الحادية عشرة صباحاً مع رفاقه من خلية الكتائب في الثانوية، لا للمشاركة في القداس بل ليروا الشيخ بيار “قديس” ذاك الزمن. وقف مع الرفاق على ناصية الشارع مقابل الكنيسة التي كانت تعج بالناس المبتهجين بافتتاح أول كنيسة للروم الكاثوليك في المنطقة. كان مرافقو الشيخ بيار منتشرين في زوايا الطرقات القريبة لتأمين الحماية له. ومع اقتراب موعد انتهاء القداس كانت ملامح ذاك النهار الأسود قد بدأت تتكون وإن اختلفت سرديتها بين جهة وأخرى.

الكوفية والشهيد الأوّل

ببطء مرّت سيارة فولكسفاغن في الشارع، داخلها شاب يضع الكوفية الفلسطينية، استنفر الشباب لمنعها من المرور وتخطي حاجز الدرك الذي كان ينظم السير أثناء الاحتفال. بحسب بعض الروايات، تمّ إطلاق النار على السائق الذي امتنع عن الامتثال لأمر التراجع وأصيب إصابة طفيفة، لتمرّ بعدها سيارة فيات مسرعة، ويطلق من بداخلها النار على من تحلقوا أمام الكنيسة استعداداً لخروج الشيخ بيار، وكان بينهم في الجهة المقابلة جوزيف أبو عاصي الذي سقط أرضاً على الفور وسقط معه رفيقه أنطوان ميشال الحسيني وبضعة أشخاص آخرين بين قتلى وجرحى. على الفور تم إخلاء الشيخ بيار من الكنيسة وشاع الخبر في أرجاء المنطقة أنه تعرّض لمحاولة اغتيال وأن شهداء من مرافقيه سقطوا. سادت حالة من الهلع والتوتر وبدأ الناس يتراكضون في الشوارع. شباب الكتائب والأحرار والعسكر المتقاعدون هرعوا إلى منازلهم حملوا ” الجفوتة” و “الكلاشينات” ونزلوا إلى الشوارع: شارع بيار الجميل، شارع مار مارون وشارع المراية يترقبون… وبالبعض صعد إلى أسطح المباني.

في الجهة المقابلة، في مخيم شاتيلا، كان يقام احتفال حاشد لذكرى شهداء “عملية الخالصة” في شمال فلسطين يحضره فلسطينيون من المخيمات الكثيرة المنتشرة في أنحاء لبنان. ومع نهاية المهرجان طلب عدد من المغادرين من مصطفى حسين “أبو رضا” الذي كان يعمل على خط صبرا أن ينقلهم بحافلته الدودج فارغو التي تحمل لوحة حمراء رقمها 95303 إلى مخيم تل الزعتر. كانت الساعة 12,30 حين امتلأت الحافلة بأكثر مما تسع وانطلقت، وكلّ من في داخلها لا يزال يشعر بالحماسة وفائض القوة وربما كانوا ينشدون أناشيد الثورة الفلسطينية. هل كان مفترضاً أن تدخل شوارع عين الرمانة الفرعية؟ ألم يكن خط سيرها الطبيعي يفرض عليها الالتفاف وأخذ طريق فرن الشباك الرئيسي؟ هو القدر أو المؤامرة أو حظ لبنان العاثر الذي جعل أبو رضا يختصر المسافة ويمر في “قلب” عين الرمانة؟ الشباب والأهالي الذين كانوا تحت هول صدمة سقوط أبو عاصي ورفاقه انتشروا في الشوارع مستنفرين غاضبين. فجأة رأوا أمامهم بوسطة مدجّجة بالكوفيات الفلسطينية تصل إلى شارع المراية، ولم يكد السائق يلمح، وفق ما رواه، مسلحاً خلف أحد الأعمدة حتى انطلق صوبهم وابل من الرصاص. سقط داخل البوسطة 27 شخصاً ونجا السائق الذي زحف نحو صمام الوقود ليقفله كما يروي حتى لا تحترق البوسطة.

الوقود الجاهز

“كان الرصاص ينطلق من الطريق ومداخل المباني” يروي سمير و”كنا نظن أننا نتعرض لهجوم من الفدائيين كما كنا نسميهم حينها. اختبأنا أنا ورفاقي في مدخل بناية، ودخلنا إلى بيوت أناس لا نعرفهم، وبقينا هناك حتى همدت الأمور. وعدت إلى بيتي بعد الظهر. توجه والدي مع مقاتلي الكتائب إلى بيت الكتائب الواقع على طريق صيدا القديمة. بعدها حضر الدرك وسيارات الصليب الأحمر لنقل المصابين إلى المستشفيات. وارتسمت في المنطقة أولى ملامح الحرب: خوف وغضب وشحن للنفوس وسلاح وقتلى وجرحى”. لم تكن حادثة البوسطة على هولها ابنة ساعتها فاستباحة الفلسطينيين للبنان حينها واعتراض الكتائب على الوجود الفلسطيني المسلح والحوادث الأمنية والاحتكاكات المتكررة ومقتل معروف سعد في صيدا كلها مهّدت الأرضية لشرارة كانت أكثر عنفاً ودموية من سابقاتها أعلنت انطلاق الحرب اللبنانية التي كان وقودها جاهزاً ومعداً للاشتعال.

ليلاً حضّر الفدائيون أنفسهم وهجموا على بيت الكتائب على طريق صيدا ودارت اشتباكات تواصلت كل الليل وترافقت مع قصف لكنهم لم يستطيعوا الدخول إلى بيت الكتائب الذي احتشد فيه شباب من مختلف الأقسام الكتائبية كما يروي أحد من عاشوا تلك الليلة.

كي لا تعاد

بقيت البوسطة المنخورة بالرصاص والملطخة بالدماء في مكانها بضعة أيام ليقوم رجال الدرك بعدها بنقلها إلى منطقة سبق الخيل وفق بعض الروايات. صاحب البوسطة مصطفى حسين الذي بقي في المستشفى عدة أيام ما عاد يريد قيادة حافلة تلطخت بالدماء، هو الشخص المسالم الذي رفض لاحقاً المشاركة بالحرب كما روى ابنه رضى وسلم قيادتها لشقيقه. بعدها انتقلت ملكية بوسطة عين الرمانة إلى شخص يدعى عباس هاشم قام بمقايضتها مع سامي حمدان الذي كان يملك حافلة دودج مماثلة تعرضت لانفجار وتوفي فيها تلامذة صغار. حافظ حمدان على البوسطة الرمز وكان ينقلها من بورة إلى بورة إلى أن استقرت في أرض تحت جسر المطار. ويروي حمدان كيف احتفظ بالبوسطة ورفض بيعها بمبلغ 5000 دولار إلى أن بدأت الجمعيات بعد الحرب تهتم بمعرفة مصير البوسطة لتحويلها إلى رمز يختصر قساوة الحرب ويحذر من العودة إليها. فعرضت عام 2007 في مهرجان أقيم في ميدان سباق الخيل حمل عنوان “كي لا تعاد” وبعدها حصلت جمعية “أمم” على البوسطة للغرض نفسه قبل أن تعود مجدداً إلى حمدان.

“هرّت” البوسطة، صدأ هيكلها وتآكل طلاؤها في بورة مهجورة لكنها بقيت حيّة في ذاكرة لبنان، تستعاد رمزيتها مع كل اضطراب للسلم الأهلي. في عين الرمانة قرب المراية ارتفع تمثال للسيدة العذراء: سيدة المراية وخلفه حديقة صغيرة يجتمع فيها رجال الأحياء المجاورة. “سعادة السما” حولت رمزية البوسطة يوماً إلى مطعم، على شكل حافلة جديدة، يطعم الجائعين مجاناً من الجهتين.

أجيال جديدة كبرت في شارع مارون مارون وشوارع عين الرمانة لم تشهد على حادثة البوسطة لكنها توارثتها عبر سرديات مخضبة بمشاعر متناقضة لتبقى البوسطة جزءاً من هوية الأجيال اللبنانية المختلفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى