الازمة الاقتصادية :مسارات الحل وتحدّيات السياسة
الازمة الاقتصادية :مسارات الحل وتحدّيات السياسة
الأزمة المالية في لبنان تُظهر بوضوح التداخل بين العوامل الاقتصادية والسياسية، ما يجعل أي محاولة للخروج من هذا المأزق معقّدة ومثقلة بالمعوقات. فعلى الرغم من إقرار موازنة 2024 بعجز صفري، فإن هذا الإجراء لم يُفلح في إقناع المواطنين أو المستثمرين بإمكانات التعافي، خاصة مع غياب إجراءات عملية لمعالجة الأسباب الجذرية للأزمة، مثل الفساد، وسوء الإدارة، والمحاصصة الطائفية.
الأزمة الهيكلية للنظام المالي
تُشير الأزمة إلى اختلالات متجذّرة في بنية النظام المالي اللبناني، منها:
غياب الحوكمة المالية الرشيدة: ضعف المؤسسات الرقابية واستمرار الفساد أفقد الثقة في القطاع العام والخاص.
الاعتماد على الدين العام: أدى الاعتماد المفرط على الاستدانة إلى تضخم الدين السيادي، مع عدم وجود رؤية اقتصادية مستدامة لخفض هذا العبء.
الهندسات المالية المضلّلة: اعتمد البنك المركزي سابقاً على سياسات هندسية لشراء الوقت، لكنها ساهمت في تعميق الأزمة بدل حلها.
النظام المصرفي الهش: ارتبط القطاع المصرفي بسياسات خاطئة، جعلته غير قادر على الوفاء بالتزاماته تجاه المودعين، مع استمرار السحوبات المقننة (Capital Controls) غير الرسمية.
العوامل السياسية المعطِّلة للإصلاح
يرى المحامي كريم ضاهر أنّ السياسة الطائفية في لبنان أدّت إلى:
فقدان الثقة بالسلطات الحاكمة: هيمنة الأحزاب الطائفية عزّزت الانقسامات وكرّست المحاصصة، ما أضعف أي محاولات إصلاحية جادّة.
غياب المحاسبة والمساءلة: ترتكز الديمقراطية اللبنانية على نظام توافقي، يجعل المحاسبة الذاتية مستحيلة بسبب تداخل المصالح بين السلطة التنفيذية والتشريعية.
عرقلة الإصلاحات الدستورية: غياب توافق سياسي على خطط الإصلاح يفرض الحاجة إلى تسويات تُفرغ الإصلاح من محتواه وتحوّله إلى خطوات شكلية.
الحلول المطروحة لإنقاذ الاقتصاد
بحسب ضاهر، فإن الخروج من الأزمة يتطلب:
إعادة هيكلة القطاع المصرفي والمالي
تصنيف الودائع إلى مشروعة وغير مشروعة.
حماية صغار المودعين واسترداد الأموال المنهوبة.
شطب الأموال المنتهية قانونياً للحدّ من الالتزامات النقدية.
معالجة الديون العامة
إعادة جدولة الديون مع المقرضين.
تقليص حجم الدين العام من خلال تخفيض الفوائد أو التفاوض على إسقاط جزء منه.
إصلاح النظام الضريبي
تحديث الضرائب لضمان عدالة التوزيع وتقليص الفجوة الطبقية.
فرض ضرائب تصاعدية على الثروات الكبرى والمداخيل المرتفعة.
استعادة الثقة بالقطاع المالي
اعتماد سياسات نقدية واضحة لتثبيت سعر الصرف.
إنشاء صندوق تعافٍ يمول من المؤسسات الدولية والدول المانحة، بشرط تنفيذ إصلاحات شفافة.
تعزيز الشفافية والمساءلة
تفعيل الأجهزة الرقابية لمحاربة الفساد.
إنشاء لجان تحقيق مستقلة لكشف التجاوزات في القطاعين العام والخاص.
العقبات أمام تنفيذ الإصلاحات
الشلل السياسي: استمرار الخلافات الطائفية يعوق التوافق على أي برنامج إصلاحي وطني شامل.
غياب الإرادة السياسية: النخب الحاكمة تفضّل الحفاظ على مصالحها بدل إجراء تغييرات تهدد مواقعها.
فقدان الدعم الشعبي: انهيار الثقة بين الدولة والمواطنين يجعل تطبيق أي إصلاح عرضة لمقاومة اجتماعية، خصوصاً إذا كانت الإصلاحات قاسية.
ضغوط دولية متناقضة: بينما تطالب المؤسسات الدولية بإصلاحات جذرية كشرط للدعم المالي، تعارض بعض القوى الداخلية هذه المطالب خوفاً من خسارة نفوذها.
الطريق إلى الأمام: إصلاح تدريجي أم تغيير جذري؟
يؤكد المحامي كريم ضاهر أنّ أي مسار للإصلاح يجب أن يوازن بين:
الإصلاحات التدريجية التي تستهدف استعادة الثقة في النظام المصرفي وإعادة الهيكلة المالية.
التغيير الجذري الذي يتطلب إعادة النظر في النظام السياسي الطائفي ووضع دستور جديد يُعزز الحوكمة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لذا الأزمة المالية في لبنان ليست مجرّد أزمة نقدية أو مصرفية، بل هي انعكاس لأزمة أعمق تتعلق بالنظام السياسي القائم. ويبدو أنّ الخروج من هذا المأزق يستدعي أكثر من إصلاحات مالية، ليشمل تغييرات بنيوية تعيد تشكيل علاقة الدولة بالمواطنين، وتكافح الفساد، وتعيد توزيع الموارد بشكل عادل. ومن دون هذا المسار، سيبقى الاقتصاد اللبناني يدور في حلقة مفرغة من الانهيار وعدم الاستقرار.