توافق أميركي – فرنسي كامل حول لبنان
الفيتو الأميركي في مجلس الأمن، والذي حال دون صدور قرار بوقف إطلاق النار في غزة ، كان بمثابة إشارة واضحة بأنّ الإدارة الاميركية لا تزال تمنح الوقت لآلة الحرب الإسرائيلية كي تعمل على إحداث تغييرات على أرض الواقع، والتي تتلخّص بالقضاء على التركيبة العسكرية لحركة «حماس». فالمشروع السياسي الذي سيظهر لاحقاً يعتمد على هذا المعطى كشرط أساسي.
يبدو أنّ الظروف الداخلية الأميركية لا تزال تسمح لإدارة بايدن بذلك. صحيح أنّ تبدّلات طرأت على مزاج الشارع الاميركي، لكن الأغلبية لا تزال تقف في الصف الإسرائيلي. ففي آخر استطلاعات الرأي الأميركية، والذي أجراها مركز «بيو للأبحاث» ونُشر يوم الجمعة الماضي، تبين أنّ 65% من الأميركيين ما زالوا يحمّلون حركة «حماس» مسؤولية الحرب الحاصلة.
ولكن، ووفق التفصيل الذي أورده الاستطلاع، فإنّ حوالى نصف الديموقراطيين يضعون المسؤولية على عاتق الحكومة الإسرائيلية، في مقابل 21% من الجمهوريين. وهو ما يعني أنّ قاعدة الحزب الديموقراطي الحاكم لا تزال أكثر مرونة من القاعدة الجمهورية، وهو ما يسمح للرئيس الأميركي بالتمهّل في مسألة لجم الجنون الإسرائيلي.
فوفق الإستطلاع نفسه، ثمة مفارقة لافتة، حيث أنّ حوالى نصف الجمهوريين لا يوافقون بايدن سياسته، فيما 44% من الديموقراطيين يوافقونها في مقابل معارضة 33% منهم.
صحيح أنّ بايدن لا يزال المرشح الوحيد لحزبه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إلاّ أن ترشيحه لم يُحسم بعد بسبب المشاكل الداخلية الجدّية والكبيرة التي بدأت تعترض طريقه. فنجله هانتر مهدّد بإدانته قضائياً في ملفات فساد. وهو ما يعني بأنّ ثمة قوى أساسية تمتلك قدرة التأثير، تحاول منعه من الترشح مرّة ثانية عن الحزب الديموقراطي. كذلك فإنّ استطلاعات الرأي تعطي غريمه دونالد ترامب أفضلية مريحة للفوز إذا كان هو الخصم. أضف الى ذلك، تذمّر الأميركيين من الوضع الإقتصادي المتراجع وارتفاع مستوى التضخم، وهو ما يجعل أكثر من 60% من الناخبين الأميركيين غير راضين على إداء بايدن وفق الاستطلاعات.
ولكن إذا كانت الحسابات الداخلية لها تأثيرها في صناعة القرار الأميركي، إلاّ أنّ هنالك جوانب أخرى تفوق أهمية، وتترك الهامش واسعاً لآلة الحرب الإسرائيلية.
ذلك أنّ إرسال قوات اميركية ضخمة إلى الشرق الاوسط لا يمكن مقاربته بتفسيرات مبسطة. فثمة ما هو أبعد حتّم على الإدارة الاميركية إرسال هذه الحشود والقطع البحرية الحديثة والمتطورة، وذلك بعد موافقة كافة مراكز صنع القرار الأميركي.
بالتأكيد هي جاءت لإنقاذ اسرائيل التي عاشت خطر الإنهيار، وبالتالي لإنقاذ المهمّة التي تتولاّها اسرائيل في المنطقة، إلّا أنّ هنالك مهمّة أخرى لهذا الحشد لا بدّ من وضعها في الحسبان، وهي تتلخص بما قيل يومها: تغيير وجه الشرق الاوسط.
فإرسال واشنطن لأحدث قوتها الحربية هو بحدّ ذاته رسالة واضحة بأنّها مستعدة لاستخدام كامل قوتها العسكرية وليس فقط التلويح بها إذا ما حتّمت الضرورة ذلك، وكأنّها تقول أيضاً إنّ الوضع لامس المصالح الأميركية في العمق.
وثمة مبدأ معروف ومتّبع على المستوى الديبلوماسي، وملخّصه بأنّ التلويح بالقوة أفعل وأجدى من استخدامها. لكن مع الحشد الضخم للقوة العسكرية الأميركية ثمة إشارة بأنّ احتمالات استخدامها موجودة ولو أنّها ليست حتمية. ووفق أوساط ديبلوماسية مطلعة، فإنّ مسار الأمور خلال الشهرين الماضيين أظهر أنّ الجميع فهم ذلك.
الاّ أنّ هنالك فارقاً كبيراً بين الجنون والواقعية. وهو سيؤدي لاحقاً لافتراق بين البرنامج السياسي الذي تعدّه الإدارة الأميركية، والذي بات يُعرف بإعادة رسم الخارطة السياسية للشرق الاوسط، وبين جنون الحكومة الإسرائيلية المرتعبة من حساب ما بعد الحرب.
ففي آخر استطلاع لصحيفة «معاريف» الاسرائيلية والذي نُشر يوم الجمعة الماضي، ظهر أنّ الشارع الاسرائيلي لا يزال على سخطه الشديد من الإئتلاف الحكومي اليميني الحاكم. وهو ما يعني أنّ غضبه سينفجر ما إن تسكت المدافع.
ووفق الاستطلاع، فإنّ أحزاب المعارضة فيما لو جرت الإنتخابات الآن، ستنال 76 مقعداً في مقابل 44 مقعداً فقط للإئتلاف الحاكم. وهو ما يعني أنّ استمرار القصف الوحشي والتهجيري لم يؤدِ الى تراجع مستوى الغضب الشعبي، خصوصاً أنّ حزب الليكود الذي يتولّى قيادة أحزاب اليمين واليمين المتطرّف تراجعت حصّته الى 18 مقعداً. والأهم أنّ 51% من المستطلعين أعلنوا عن تأييدهم لوصول بيني غانتس الى رئاسة الحكومة، وهو تقدّم نقطتين عن الاستطلاع السابق، والذي سجّل فيه نسبة 49%، في مقابل 31% لبنيامين نتنياهو. واللافت أنّه بين ناخبي الليكود حاز نتنياهو على تأييد 64% فقط في مقابل 19% لغانتس.
وهذه الأرقام ترفع مستوى القلق من الجنون الذي تغرق فيه الحكومة الإسرائيلية، خصوصاً أنّ «الإنجازات» العسكرية التي التزمت بها لم تتحقق بعد، على الرغم من انقضاء أكثر من شهرين على أطول حرب على الاطلاق تخوضها اسرائيل.
لكن هذا الجنون الدامي من المفترض أن ينتهي الشهر المقبل، لتبدأ مرحلة الترتيبات السياسية ومعها الافتراق بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، وليس أبدا افتراقاً بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والفرق كبير.
وهو ما يعني أنّ الملف اللبناني سيجد مكانه في العام الجديد، كأحد ركائز إعادة رسم خارطة النفوذ في المنطقة.
وخلال الاسابيع الماضية، ارتفعت الحماوة خصوصاً في البحر الأحمر، لتطال السفن التجارية، وفي جنوب لبنان، وطالت هذه الحماوة القواعد الأميركية في سوريا والعراق، إضافة لاستهداف السفارة الأميركية في بغداد.
وثمة ملاحظتان سريعتان في الذي يحصل. الأولى أنّ الاستهدافات بقيت تحت خط مرسوم بدقّة متناهية، ودون مستوى الخطر أو «الأذى» الفعلي. أي أنّ ما يحصل كان يحاذر سقوط خسائر في الأرواح من خلال استخدام اسلحة غير متطورة أو فعاّلة. ذلك أنّه لو حصلت تطورات مزعجة وفق الظروف السائدة، فإنّ احتمالات إندفاعة الأمور الى الأمام تصبح واردة وموضوعة على الطاولة.
والملاحظة الثانية، استمرار خطوط التواصل أو بالأحرى التفاوض السرّية بين واشنطن وطهران مفتوحة، لا بل انّها تعمل بنشاط وفق الأوساط المطلعة.
وهاتان الملاحظتان تدفعان للاستنتاج بأنّ التفاوض عبر القناة العمانية، يصاحبه تخاطب «ناري» يؤدي دوره بفرض الشروط أو بتعديلها أو بلفت النظر إليها.
وهنا سيأتي دور لبنان «المزنوق» بين إعادة رسم خارطة النفوذ السياسي وبين «حشرة» الحكومة الإسرائيلية.
ولذلك باشرت الحكومة الإسرائيلية في توجيه رسائلها الى لبنان باكراً. فهي تطمح لواقع جديد في جنوب لبنان. وهي قد تكون تعتبر أنّ الخارطة السياسية الجديدة في المنطقة سترتكز على مبدأ فك الارتباط بين اسرائيل وإيران، من خلال إزالة كل خطوط التماس بينهما، بدءاً من حركة «حماس» في غزة، والتي شكّلت رأس الحربة في استراتيجية تمدّد ايران في المنطقة، ومروراً بالضفة الغربية التي كانت تشهد بداية تأسيس بنية تحتية لـ»حماس» و»الجهاد الإسلامي»، وكذلك جنوب سوريا، حيث كانت فشلت كل الصيغ التي اعتُمدت لجعله خالياً من نفوذ إيران عبر «حزب الله». ويبدو أنّ الصيغة الجديدة والقائمة على «ثورة» أبناء السويدا واتجاههم الى صيغة الحكم الذاتي ستدفع باتجاه ترتيب المنطقة. ويبقى «حزب الله» صاحب النفوذ الأقوى والحضور الأفعل والقدرة الأكبر على مستوى حلفاء إيران.
من هنا، تبدو الحدود اللبنانية كآخر خطوط التماس ما بين ايران واسرائيل، والتي تدفع اسرائيل لإدخالها في الترتيبات القائمة قبل إقفال ملف الحرب نهائياً. ويبدو أنّ واشنطن موافقة على ضرورة إدخال لبنان في الترتيبات الجديدة، ولكن ليس وفق المنظار الذي تطرحه إسرائيل.
فعلى سبيل المثال، فإنّ الاقتراح بجعل منطقة عازلة في لبنان، والذي اقترحه قائد المنطقة الشمالية للجيش الاسرائيلي على ما يبدو، لا يحظى بمواففة واشنطن التي ترى فيه اقتراحاً غير واقعي. وفي الوقت نفسه فإنّ ما جرى ترويجه عن اختلاف في النظرة حيال الملفات اللبنانية بين واشنطن وباريس ليس صحيحاً البتة. ففي الداخل اللبناني الكثير من «الغبار» سببه التناحر الداخلي، ولا علاقة له بحقيقة الواقع. وتشدّد الاوساط الديبلوماسية، أنّ التنسيق قائم بين واشنطن وباريس، وبينهما وبين بقية عواصم الدول الخمس المهتمة بالملف اللبناني. وتؤكّد هذه الأوساط، أنّ لودريان تحدث بما جرى التفاهم حوله بين العواصم الخمس، وأنّ برنارد إيمييه جرى تحوير كلامه في بيروت والخلط بين ما نقله عن الاسرائيليين وبين التوجّه الدولي.
أما بالنسبة للحرص القائم على وجوب ضمان استقرار الجيش، فهو حرص دولي ثابت لأنّه يشكّل ضمانة لعدم انهيار وتفتت لبنان، لا بل ضمانة لاستقرار الجوار، وهو ما يشكّل إجماعاً دولياً بما فيه روسيا. وأنّ محاولة اللعب باستقرار الجيش هو عمل غير مسؤول، كانت ستنتج منه عواقب كبيرة.
في أي حال، ثمة مرحلة جديدة ستكون دقيقة وصعبة للبنان مع انطلاق العام المقبل، وقد يواكبها وصول السفيرة الأميركية الجديدة الى بيروت، بعدما أتمّت جلسة الاستماع اليها، وهو ما يعني قرب استلامها مسؤولياتها الجديدة.
وتبقى الإشارة الى خطورة الجرح المفتوح في الجنوب وأبواب المخاطر المشرّعة، خصوصاً أنّ اسرائيل التي حصلت ولا تزال على دعم أميركي مفتوح للذخائر النوعية، كانت قد حازت على 100 قنبلة زلزالية متخصّصة باختراق التحصينات، وهي لم تستعمل أياً منها حتى الآن في غزة. فهل هنالك من نوايا مبيتة؟
الجمهورية – جوني منيّر