الداخل يتخبّط والعين على الجنوب
انتهت الهدنة التي دخلت حيّز التنفيذ في 24 تشرين الثاني الماضي لمدّة 4 أيام، وجرى تمديدها مرتين، الأولى ليومين والثانية ليوم واحد، وفشل تمديدها الثالث، فاستأنفت اسرائيل حربها التدميرية بسلسلة غارات جوية على مناطق مختلفة في قطاع غزة ما أدّى الى سقوط العديد من الشهداء والجرحى في صفوف المدنيين الفلسطينيين.
هذا التطوّر يعيد من جهة فتح باب الاحتمالات واسعاً على تطورات حربيّة بلا روادع او قيود، سواءً في قطاع غزة او على الجبهات الاخرى، وخصوصاً أن لا نيّة لدى اسرائيل لإيقاف الحرب وفق ما نقلته “القناة 12” الإسرائيلية، ومن جهة ثانية يفتح العين مجدداً على جبهة الجنوب اللبناني، التي عادت أمس الى مربّع التوتر الشديد مع تجدّد القصف الإسرائيلي في اتجاه المناطق اللبنانية، ولاسيما وادي حامول وعلما الشعب، اللبونة، الجبين، حيث أُفيد عن سقوط شهيد وثلاثة جرحى، واطراف الناقورة، عيتا الشعب وأحراج القوزح، عديسة، وادي هونين، ودير ميماس وبلدة حولا، حيث أفيد عن استشهاد سيّدة وابنها جراء اصابة منزلهما بقذيفة اسرائيلية. وانفجار صواريخ اعتراضية اسرائيلية فوق سهل الخيام وكفركلا، واطلاق النار على الرعاة في شبعا. واعلن الجيش الاسرائيلي عن استهداف خلية كانت تعمل في الاراضي اللبنانية بالقرب من منطقة زرعيت. وفي المقابل استأنف “حزب الله” عملياته العسكرية، واعلن عن استهداف تجمّع للجنود الاسرائيليين في محيط موقع جل العلام وفي محيط موقع المرج وثكنة راميم، وموقع راميا. وذكرت وسائل اعلام اسرائيلية انّ الجيش الاسرائيلي رفع من حالة التأهّب على الحدود مع لبنان، مشيرة الى انّ الجبهة الداخلية شدّدت من توجيهاتها للسكان في الجولان وعلى طول الحدود مع لبنان.
وتأتي جولة التصعيد المتجدّدة، في وقت تتواصل فيه الاندفاعة الدولية في اتجاه لبنان للتحذير من مخاطر الإنزلاق إلى حرب لا حصر لتداعياتها وامتداداتها. وآخر فصولها كان مع الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، الذي اكّد في محادثاته التي اجراها في بيروت في الايام الاخيرة على تجنّب التصعيد، وخصوصاً انّ احتمالات الحرب قائمة أكثر من أي وقت مضى.
وإذا كانت اسرائيل قد ارفقت استئناف حربها التدميرية على قطاع غزة بالإعلان عن الاستمرار في هذه الحرب حتى تحقيق اهدافها بالقضاء الكامل على “حماس”، فإنّ الاعلام الاسرائيلي ناقض ذلك، وبدأ يتحدث عن أفق مسدود لهذه الحرب، على ما ذكرت صحيفة “يديعوت احرونوت” الاسرائيلية أمس، من “أنّ الحرب قد تنتهي من دون صفقة كبيرة ومن دون تقويض حركة حماس”.
وضمن هذا السياق، تتقاطع قراءات المحلّلين والمعلّقين على أنّ الحسم الذي تريده اسرائيل في هذه الحرب، أثبتت مجريات الميدان الحربي ما قبل الهدنة، صعوبته وربما استحالته، وتبعاً لذلك فإنّ الولايات المتحدة الاميركية باتت لا تحبّذ حرباً طويلة الأمد، وتتشارك مع القطريين والمصريين في جهد لفرض هدنة تدفع الى خفض سقف التصعيد وعدم استئناف الحرب الاسرائيلية على نحو ما كانت عليه قبل الهدنة. وهو ما أكّد عليه وزير الخارجية الاميركية انتوني بلينكن إلى تل ابيب، حيث كشف الاعلام الاسرائيلي “انّ بلينكن رفض قبول الطرح الإسرائيلي بشأن استمرار الحرب على غزة، كما كان الوضع قبل الهدنة، وأخبر المستوى السياسي في إسرائيل، خلال “لقاء مشحون” بانّ لديكم أسابيع، وليس أشهراً”. ولفت الاعلام الاسرائيلي، الى أنّ وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، قال لبلينكن: “إنّ العملية ستستغرق أشهراً”، لكنّ بلينكن ردّ عليه قائلاً: “لا أعتقد أنّ أمامك أشهراً”.
الى ذلك، أبلغ ديبلوماسي خبير في الشأن الاسرائيلي إلى “الجمهورية” قوله: “إنّه على الرغم من ارتفاع وتيرة التهديدات الاسرائيلية بمواصلة الحرب للقضاء على “حماس”، فإنّ مجموعة عوامل تضغط بقوة للتعجيل في وقف لإطلاق النار في غزة، والانتقال الى مفاوضات متواصلة وصولاً الى ترتيب صفقة لتبادل الاسرى. واما ابرز تلك العوامل، فهي الوضع الاسرائيلي الداخلي، ضغط أهالي الاسرى الاسرائيليين، صعوبة الحسم وتحقيق الانتصار الذي تريده اسرائيل، المخاوف المتنامية لدى الدول الكبرى ولاسيما الولايات المتحدة الاميركية، من ان تشكّل هذه الحرب تهديداً حقيقياً في ادخال منطقة الشرق في دوامة عنف وحرب واسعة النطاق. التبدّل المتسارع في المزاج الدولي الداعم لاسرائيل في هذه الحرب. ولعلّ اكثر العوامل المستجدة للتعجيل بإنهاء الحرب، هو أنّ جبهة اوكرانيا بدأت تتحرّك في الاتجاه الذي لا يخدم مصالح الدول المتحالفة ضدّ روسيا، وقد أعلن وزير الدفاع الروسي بالأمس عن انّ الجيش الروسي يتقدّم في كل الاتجاهات في اوكرانيا.
أمّا لبنانياً، فإنّ الترقّب سيّد الموقف، وعلى ما قال مسؤول كبير لـ”الجمهورية”: “كنت وما زلت اؤكّد على اعلى درجات اليقظة والانتباه والجهوزية لأي طارئ، فطالما انّ الحرب الاسرائيلية على غزّة قائمة، ونتنياهو كما بات معلوماً وواضحاً، يسعى الى إطالة امدها، لأنّ نهاية الحرب تعني نهايته، فإنّني لا اخرج من حسباني احتمال أن تبادر اسرائيل بعدوان على لبنان في اي لحظة، وهو ما اكّدنا عليه امام الموفد الفرنسي جان ايف لودريان، وهو بصراحة شاركنا المخاوف من عدوان اسرائيلي”.
سياسياً، بعد زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي، عاد لبنان الى التموضع في مربّع الإرباك على كل المستويات والتخبّط بالملفات. وكما كان متوقعاً، فإنّ زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي لم تحمل شيئاً، ووصفها مرجع سياسي بأنّها “زيارة لا بتقدّم ولا بتأخّر”. وقال لـ”الجمهورية”: “لم يطرح لودريان أي فكرة جديدة او جدّية مساعدة على تحريك الملف الرئاسي، حيث انّه في هذا الملف لم يخرج عمّا طرحه في زياراته السابقة، ومعنى ذلك انّ ملف رئاسة الجمهورية باقٍ على الرفّ وخارج دائرة البحث الجدّي الى ان يقضي الله امراً كان مفعولاً. ولكن اولويّة لودريان هذه المرّة، لم تكن رئاسة الجمهورية، بقدر ما كان التحذير من الانجرار الى حرب انطلاقاً من جبهة الجنوب، فيما الأولوية الأساس والاكبر، التي كان شديد الحماسة لها، هي محاولة إقناع مختلف الأطراف بضرورة التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون. باختصار هذا هو جوهر الزيارة لا اكثر ولا أقل”.
يُشار في هذا السياق الى موقف فرنسي لافت حول الوضع اللبناني، جاء على لسان وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، حيث اعتبرت انّ الوضع بين لبنان واسرائيل اخطر مما كان عليه في عام 2006، محذّرة من أنّ أي خطأ في الحسابات يمكن ان يجرّ لبنان الى تصعيد يتجاوز جنوبه”.
وإذا كانت حكومة تصريف الأعمال قد مرّت بسلسلة مطبّات حالت دون تمكّنها من اتخاذ قرار في شأن التمديد لقائد الجيش او تأخير تسريحه جرّاء مداخلات سياسية منعت اتخاذ هذا القرار، وبالتالي انقضت المهلة التي منحت للحكومة في حسم هذا الملف قبل نهاية شهر تشرين الثاني الماضي، ما يعني انتقال ملف قائد الجيش تلقائياً الى المجلس النيابي، للبتّ به في جلسة تشريعية، قال رئيس المجلس النيابي نبيه بري إنّه سيدعو اليها قبل 15 كانون الاول الجاري، بعد اجتماع سابق لها لهيئة مكتب مجلس النواب.
على انّ المطبّات السياسية التي اعترضت اتخاذ قرار بالتمديد لقائد الجيش الذي تنتهي ولايته في 10 كانون الثاني المقبل، او بتأخير تسريحه، لا يبدو وفق معلومات موثوقة “الجمهورية” أنّ مفاعيلها انتهت مع عدم اتخاذ الحكومة لهذا القرار، بل ستسحب نفسها على جلسة مجلس النواب، حيث تؤشر التوجّهات السياسية والنيابية، وكذلك المواقف المعلنة وغير المعلنة الى أنّ معركة حامية الوطيس سياسياً، تنتظر هذا الملف في الجلسة التشريعية، ما يعني انّ كل الاحتمالات واردة تجاهه، سواءً لناحية إقرار الاقتراح النيابي المقدّم من كتلة “القوات اللبنانية” في هذا الشأن او عدمه. مع أنّ مصادر نيابية تؤكّد لـ”الجمهورية” انّ الأكثرية النيابية التي يتطلّبها إقرار هذا الاقتراح متوفرة.
وبحسب معلومات “الجمهورية”، فإنّ ثمة مخارج يتمّ التداول بها عشية الجلسة المرتقبة، لقطع الطريق على اي طعن بهذا الأمر امام المجلس الدستوري، إمّا عبر دمج الإقتراح “القواتي” الذي يرمي الى التمديد سنة لمن هم برتبة عماد، بالاقتراح المقدّم من “كتلة الاعتدال” والرامي الى التمديد سنة لمن هم في رتبة عماد ولواء، او السير باقتراح جديد يتسمّ بالشمولية، بحيث يستفيد منه قادة الأجهزة الامنية وكبار الضباط.
وإذا كان التمديد لقائد الجيش يحظى بدعم مباشر من بكركي وبعض القوى السياسية في لبنان، وكذلك من جهات دولية، ولاسيما الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا على اعتبار انّ الظروف الحالية، وكذلك الحرص على استمرارية المؤسسة العسكرية وعدم ايقاعها في إرباك، تستوجب ذلك، فإنّ مصادر موثوقة لفتت الى لقاء الدقائق القليلة المتوترة بين الموفد الفرنسي ورئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل حول التمديد لقائد الجيش، لتؤكّد على مدى تصلّب النائب باسيل ومن خلفه رئيس الجمهورية السابق ميشال عون تجاه هذا الامر، واشارت عبر “الجمهورية” الى أنّ تكتل لبنان القوي بصدد ان يخوض معركة قاسية ضدّ التمديد للعماد عون في الجلسة التشريعية. وانّ التكتل لن يكون وحده في هذه المعركة، ملمّحة بذلك الى احتمال أن تناصره في موقفه هذا “كتلة الوفاء للمقاومة”. من دون ان تستبعد المصادر أن يكون لـ”حزب الله” دور في منع حكومة تصريف الاعمال من مقاربة حاسمة لملف التمديد.
المصدر – الجمهورية