جردة حساب من غزة إلى الجنوب
يلف الغموض الموقف الميداني في غزة فيما يختبر التدمير الممنهج للقطاع كل يوم عجز المجتمع الدولي على إلزام إسرائيل وقف القصف المتمادي وربما تواطئه في تجريد أهل القطاع من كلّ مقومات الحياة.
تتحشد المدرعات الإسرائيلية أمام أسوار غزة ويعلن الجيش استكمال استعدادته ثم ما يلبث أن يتراجع مع فشل أولى محاولاته لاقتحام القطاع. وبالتزامن تنقل صحيفة «نيويورك تايمز «عن مسؤولين أميركيين أن إدارة الرئيس جو بايدن نصحت إسرائيل بتأجيل الغزو البري للقطاع بهدف كسب الوقت لإجراء مفاوضات بشأن «الرهائن» والسماح بوصول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وإعطاء واشنطن مزيداً من الوقت للتجهيز لأي هجمات محتملة ضد مصالحها في المنطقة بعد تحرك الجيش الاسرائيلي إلى داخل غزة.
وبصرف النظر عن أهداف كلّ ما يساق حول توقيت إطلاق الهجوم البري، تدرك إسرائيل أن احتلالها للقطاع لا يمكن أن يستمر يوماً واحداً وأنها ليست في موقع إدارة الحياة اليومية لأكثر من مليونيّ فلسطيني. كما وأن القبول العربي بتلقَّف الموقف في غزة مرهون بتراجعها عن خيار نقل الفلسطينيين الى خارج القطاع وفصل مستقبل كتائب القسام عن مستقبل سكان القطاع والسير بحل الدولتين. وبهذا تصبح النصيحة الأميركية لإسرائيل هي نقطة التقاطع بين ضغوط عربية جامعة لوقف العملية البرية وارتباك إسرائيلي حيال الموقف المستجد بعدها، وربما الكوّة التي يمكن عبرها لإسرائيل عبور جدار الأزمة المقفل. هذا طبعاً دون أن ننسى القلق من تداعيات الخسائر البشرية الهائلة والمادية التي ستزعزع أركان الكيان الإسرائيلي وقد تؤدي الى انهياره.
التردد الإسرائيلي في إطلاق العملية البرية في غزة يشبه تردد طهران في الدفع بحزب الله لفتح الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة. يثابر الحزب على الإلتزام بقواعد الإشتباك التي نقلها وزير الخارجية أمير عبد اللهيان الى بيروت والتي أكدّ خلالها من جهة عدم مشاركة إيران في طوفان الأقصى ومن جهة أخرى إعلان مسؤولية حزب الله بشخص أمينه العام عن توقيت وحجم التعامل مع الحرب في غزة. وبهذا نأى اللهيان بإيران عن الشراكة في الحرب وقدّمها كوسيط نظيف قادر على المحافظة على الإستقرار على الجبهة الشمالية.
تسير إيران على حافة الهاوية في مواجهة معضلة الدفع بحزب الله للقتال من أجل محاولة إنقاذ ذراعها في قطاع غزة، أو ترك تلك الذراع والتخلي عنها. إن خسارة طهران لأحد أهم مواقع قوتها في الداخل الفلسطيني من شأنها أن تحدث انشطاراً في منظومة مسلحة تعمل بالوكالة في أنحاء الشرق الأوسط، من حزب الله في لبنان، إلى الحوثيين في اليمن عبر سوريا والعراق. كذلك فإن وقوف طهران موقف المتفرج أمام أي اجتياح بري إسرائيلي لقطاع غزة من شأنه أن يقوّض بشكل كبير الاستراتيجية التي سارت عليها إيران منذ أكثر من أربعة عقود، لبسط وتعزيز نفوذها الإقليمي، وبالمقابل فإن إقدام حزب الله على تنفيذ أي هجوم كبير على إسرائيل من شأنه أن يكبد إيران خسائر فادحة، ويثير غضباً شعبياً ضد المؤسسة الدينية الحاكمة في دولة تعاني من أزمة إقتصادية خانقة.
الإرتباك الإيراني حيال غزة يقابله ارتباك في خطاب حزب الله الذي يواجه مأزق تحوّل الحدود الجنوبية إلى جبهة مفتوحة لأجل غير مسمّى، بمعايير وضوابط مجهولة تطرح أكثر من علامة استفهام حيال تحوّل حزب الله الى قوة عسكرية تقليدية ترابط على الحدود وتتبادل إطلاق النار بشكل يومي مع العدو الإسرائيلي، وحيال توسّع بقعة الإشتباك لتطال المزيد من القرى في الداخل وليعيش الجنوبيون مجدداً هواجس التهجير والإضطراب الإجتماعي والإقتصادي دون أن يضع حزب الله أمامهم وأمام اللبنانيين أي أفق لإنهاء هذا الصراع المتجدد. وفي ما يؤكد مبارحة حزب الله موقع الردع الذي طالما جاهر به وتأكيده على حماية اللبنايين وتهديد الكيان الصهيوني يقول رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد: « لسنا معنيين بأن نقدم كشف حساب لما نفعله لأحد على الإطلاق، كشفنا نقدّمه لله، لأننا نقاوم في سبيل الله من أجل الله…. نحن نتحرك في ضوء رؤية واضحة يمكن أن تحقق الهدف السياسي الذي ننشد ونريد، العدو لن ينتصر في غزة وليدمر ما يدمر، فالتدمير ليس انتصاراً».
لقد تحقق اللبنانيون بعد تجربة العام 2006 أن الهدف السياسي من الحرب كان سيطرة الحزب على القرار السياسي كمقدّمة لهيمنة تحققت على كل مفاصل الدولة، حيث يمثّل الفراغ الرئاسي وتعطيل الإستحقاق الدستوري أحد أوجهها الواضحة. وفي هذا السياق يصبح من حق اللبنانيين جميعاً أن يتساءلوا عن الجهة الدنيوية التي على حزب الله أن يقدّم لها جردة حسابه، ومن حقهم أن يتساءلوا عن ماهية الرؤية التي يعتبرها حزب الله واضحة وماهية الهدف السياسي الذي ينشده الحزب ويريده، لا سيما بعد أن تحوّل الحزب من قوة رادعة قادرة على نقل المعركة الى الأراضي المحتلة الى المساكنة مع مشهدية التدمير في غزة تحت شعار التدمير ليس انتصاراً.
العميد الركن خالد حماده – اللواء