الخيار الثالث الحقيقي أين يُنتج
ما زالت المساعي الدبلوماسية التي تجريها اللجنة الخماسية عبر الوسيط القطري لإخراج لبنان من حالة الشغور الرئاسي متوقفة عند المواقف التي أعلنتها الكتل السياسة منذ بداية الأزمة. الجدار الذي أقامه ثنائي أمل حزب الله عند حدود التمسك بالوزير السابق سليمان فرنجية أسقط أي محاولة لإقناع الفريق الآخر بجدوى الذهاب نحو خيارات جديدة، والدفع بمزيد من الأسماء لن تلامس معايير القبول لدى الثنائي وسيتم رفضها حكماً. من هنا أتى القرار برفض حوارٍ يفتقر الى أبسط مقومات المساواة بين المتحاورين ويجنح نحو تكريس مكوّن فوق السلطة التشريعية المولجة بإنتخاب الرئيس وفقاً للمادة 49 من الدستور.
يقدم الثنائي أمل حزب الله نفسه أمام المجلس النيابي بما يشبه «مجلس صيانة الدستور» في الجمهورية الإسلامية الذي تعود إليه صلاحية المصادقة على أسماء المترشحين الحائزين على شروط الترشيح، واستبعاد من «لا يراه مناسباً»، وفقاً لقيود ومعايير يعود له وحده حق وضعها. هذا في الوقت الذي يطوف رئيس التيار الوطني الحر الوزير السابق جبران باسيل في المناطق اللبنانية موزعاً لاءاته وشروطه على المرشحين، وواضعاً الملاحظات على أداء المؤسسات، متجاهلاً تجربة تياره الفاشلة في وزارتيّ الخارجية والطاقة التي توّجها بولاية كارثية في موقع رئاسة الجمهورية.
تتكامل لاءات الثنائي أمل حزب الله العابقة بنكهة الإقليم مع لاءات باسيل المحلية المرتكزة على تحالفه مع حزب الله لتأكيد حالة الإستئثار التي يفرضها تحالفهما. يرفض الحليفان تسهيل مهمة أي وسيط عربي أو غربي حتى نضوج اللحظة المناسبة التي تؤكدها إشارة إقليمية من دمشق أو طهران. يتأكد هذا التكامل من خلال توزيع للأدوار، ما لا يقله الحزب يتولاه باسيل والعكس بالعكس. هذا ما أكدته الرسائل التي أطلقها باسيل في كلّ الإتجاهات خلال طوافه في البقاع في عطلة الإسبوع المنصرم، والتي حذّر فيها المعارضين من الرهان على هزيمة النظام السوري أو ما أسماه الصفقة السعودية الإيرانية على حساب حزب الله من جهة، والإتهامات لأفراد وضباط وقادة في الجيش بـ»التواطؤ سياسياً والإستفادة المادية من شبكات التهريب» من جهة أخرى وإعلانه عدم القبول برئيس يحتاج إنتخابه الى تعديل دستوري.
إن البحث عن مرشح ثالث في ظلّ حالات الإستئثار المعلنة هو أصعب من البحث عن إبرة في قعر المحيط وليس في كومة قش. إن الإستحالات التي تواجه الوصول الى مرشح ثالث تتجاوز العناوين الشكلية المرفوعة، والتي يعبّر عنها برئيس يحمي المقاومة أو بصندوق إئتماني أو بلامركزية مالية موسّعة، لتصل مباشرة إلى رفض إخراج الإدارة الحالية من شبكات الهيمنة الموجودة التي أسّست لفساد مزمن في كل ما يتعلق بالشأن العام، نحو حوكمة حقيقية تضع المصلحة العامة في رأس أولوياتها. وفي هذا السياق تتضح العلاقة المتكافئة بين الفساد الداخلي والتبعية الإقليمية بحيث يُنتج كلّ منهما العمق الحيوي والبيئة الحاضنة للآخر.
في هذا الإطار المرافق لكل الوساطات لا بد من الإجابة على جملة من التساؤلات:
ما هي معايير الإختيار التي ستُعتمد لجعل المرشح الثالث مقبولاً من الجميع؟ وما هي مساحات التغيير المتاحة والتي يمكن أن تفضي الى القبول برئيس يملأ الفراغ ويتعايش مع الأزمات المتفاقمة، أو الى رئيس قادر على إنجاز ما هو ضروري وملح لإنقاذ الوضع الإقتصادي والمالي؟ وما هي تداعيات كلّ من الخيارين على صعيد تشكيل الحكومات وتحقيق الإصلاحات وترميم علاقات لبنان العربية والدولية؟ وما هي المخاطر المترتبة على ذلك؟
لا بد للنقاش الدائر حول إنهاء الشغور الرئاسي من الإنتقال من مفهوم البحث عن المرشح الثالث الى مفهوم إنتاج المرشح الثالث بالرغم مما يعنيه ذلك من عمل تراكمي قد يستلزم وقتاً، فجلّ ما جرى حتى الآن هو عبث سياسي في الوقت الضائع. إن إنتاج المرشح الثالث لا يبدو متاحاً دون إدخال مكوّن جديد الى دائرة النقاش القائم الذي لم يعبّر سوى عن تقاسم المصالح بين القوى السياسية. إن اللجنة الخماسية مدعوّة لتوسيع النقاش حول رئيس الجمهورية المقبل بإشراك التكتلات الإقتصادية الصناعية والزراعية والخدماتية وتشكلات المجتمع المدني الحيّة والجامعات التي تستقطب العدد الأكبر من الشباب اللبناني، والتي يعوّل عليها في بناء مستقبل واعد للبنان. كذلك فإن هذه القوى الحيّة مدعوّة بدورها للخروج عن صمتها والتعبير عن دورها الريادي بما قد يحرّر بعض الأحزاب والمنتديات السياسية التقليدية من إصطفافاتها الطائفية المزمنة، وبما يتيح الخروج من حالة الإنقسام السياسي القائم.
إن البحث المزمن عن رئيس للجمهورية لم يكن سوى عنواناً لجمهورية ضائعة، وقد تكون محاولة إنتاج الرئيس هي الخطوة الأولى على طريق إنتاج الجمهورية.
العميد الركن خالد حماده – اللواء