الإيدز في لبنان… بين الإيجابية والسلبية

أعادت عدة مناطق من سيدني الأضواء إلى معركة مكافحة انتشار فيروس (HIV) في العالم، بعدما اقتربت من إعلان انتصارها على المرض مع تخفيضها نسبة انتشاره إلى 88 في المئة، بحسب ما ذكرت جمعية الإيدز الدولية، ما يعتبر دليلاً جديداً على أن أستراليا “قد تصبح أول دولة تصل إلى هدف الأمم المتحدة المتمثل في القضاء على الإيدز بحلول عام 2030”.
تقدّر الأمم المتحدة عدد المصابين بفيروس (HIV) في منطقة الشرق الأوسط بحوالي 430 ألف شخص، 14 ألف منهم من الأطفال، وفي الوقت الذي أبدى فيه تقرير نشر الشهر الحالي لبرنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس الإيدز، تفاؤلاً بأن هناك “طريقاً ممهداً” للقضاء على هذا الفيروس، أشار التقرير إلى ارتفاع عدد الإصابات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 61 في المئة منذ عام 2010.
ونبّه التقرير الذي حمل عنوان “الطريق الذي يقضي على الإيدز” من تراجع تمويل مكافحة الإيدز في 2022 من قبل المصادر الدولية والمحلية على حد سواء للمستوى الذي كان عليه في عام 2013، شارحاً أن حجم التمويل بلغ 20.8 مليار دولار وهو رقم أقل من 29.3 مليار دولار المطلوبة بحلول عام 2025، لافتاً إلى أن الأرقام تشير إلى أن المرض كان يحصد روحاً واحدة في كل دقيقة العام الماضي، ومازال 9.2 مليون شخص مصابون بالفيروس لا يتلقون العلاج بمن فيهم 660 ألف طفل.
يفقد 19 ألف شخص في الشرق الأوسط حياتهم سنوياً لأسباب تتعلق بهذا الفيروس بحسب تقرير للمنظمة العالمية، وهو يتركز بين الفئات المعرضة للخطر؛ وهم العاملون بالجنس، والسجناء، والعابرون جنسياً، ومن يتعاطى المخدرات عن طريق الحقن، وللحد من انتشار هذه الفيروس الذي يمثل مشكلة صحية عالمية رئيسية، وضعت دول المنطقة استراتيجيات وطنية لمكافحته، عبارة عن خطط لوزارات الصحة، والبرامج الوطنية المعنية به.
قبل ثلاث سنوات اكتشف عماد إصابته بالفيروس وهو على سرير إحدى مستشفيات لبنان، بعدما ارتفعت حرارة جسده عقب خضوعه لعملية جراحية لنزع ورم سرطاني، وبعد فحوصات عدة لم تكشف سبب ذلك طلب من الطبيبة اخضاعه لفحص الـ (HIV) فتأكدت كما يقول شكوكه، ويضيف “ما إن ظهرت النتيجة حتى تغيّرت معاملة الأطباء والممرضين لي، أشعروني أني جرثومة متنقلة، نبذوني ومنعوني من الخروج من الغرفة، رغم أن هذا الفيروس لا ينتقل إلا من خلال علاقة جنسية أو بالدم، وذلك بدلاً من دعمي نفسياً”.
قصد عماد (58 سنة) عدة أطباء جميعهم كما يقول “تسببوا بتدميري نفسياً، ولولا جمعية “براود ليبانون” التي وقفت إلى جانبي وأمنت لي الدواء من وزارة الصحة وتابعت حالتي من قبل الطبيب الذي تتعامل معه، لما كنت أعلم ماذا كان حلّ بي” ويشدد “استمريت مدة سنتين بعد اكتشاف إصابتي وأنا في حالة خوف من انقطاع الدواء، لكن مدير الجمعية طمأنني أنه مؤمن ولم ينقطع منذ أكثر من عشر سنوات”.
المجتمع اللبناني غير مهيأ لهذا المرض بحسب عماد “فهو يعتبر المصاب به عاراً، كما أن الوعي الطبي مفقود، ومع ذلك يبقى لبنان أفضل من بعض الدول العربية التي ترحّل الأجنبي إذا اكتشفت إصابته” ويضيف “رغم يقيني بأني لا أنقل العدوى إلا أنني نفسياً لا أتقبل ممارسة الجنس، ولم أطلع أحداً بمرضي سوى شقيقي وصديقي، ومنذ ثلاث سنوات لا أعمل حيث أصرف من مدخراتي التي حجز المصرف الجزء الأكبر منها”.
وفي بداية العام الماضي اكتشف هادي إصابته بالفيروس بعد سلسلة فحوصات أجراها بسبب فقدانه 20 كيلو غراماً من وزنه على مدى سبعة أشهر، لم يتعاون طبيبه معه لإنجاز ملفه الطبي لكي يرسله إلى وزارة الصحة اللبنانية للحصول على الدواء مجاناً، كما يقول، وبعد أن أطلعه صديقه بأن جمعية “براود ليبانون” تقوم بهذه المهمة تواصل معها فأخذت مهمة تأمين الدواء له من وزارة الصحة.
لم يطلع هادي(56 سنة) سوى شريكه وشقيقه على حقيقة وضعه الصحي، وبعد مرور أشهر على تلقي العلاج، استعاد صحته، وهو يخضع كما يقول لموقع “الحرة” لفحوصات دورية بأسعار رمزية تؤمنها الجمعية في أحد أهم المختبرات، لكي يتمكن تجديد ملفه كي يتمكن من الحصول على الدواء، ويشدد “ليس من الضروري أن تكون العدوى من علاقة جنسية فربما من الأدوات الحادة الملوثة بالدم، ولكوني أخشى أن أكون سبباً بانتقال العدوى توقفت عن ممارسة العلاقة الجنسية مع شريكي، رغم أن الطبيب أكد لي أن مواظبتي على تناول الدواء في موعده تلغي احتمالية نقلي العدوى”.
تم تسجيل أول إصابة بالفيروس في لبنان عام 1984، وبعد خمس سنوات تأسس البرنامج الوطني لمكافحة السيدا (الإيدز)، كبرنامج مشترك بين وزارة الصحة العامة ومنظمة الصحة العالمية، وذلك بعد ارتفاع عدد الأشخاص المصابين به، ويمكن تقييم واقع مكافحة الإيدز في هذا البلد، بحسب رئيس قسم الأمراض الجرثومية في مستشفى رفيق الحريري، الدكتور بيار أبي حنا، من ناحيتين إيجابية وسلبية.
ويشرح أبي حنا لموقع “الحرة” أن “الإيجابية تكمن بعدم انقطاع الدواء، فالبرنامج الوطني لمكافحة السيدا التابع لوزارة الصحة فعال جداً ولم يتأثر بالأزمة الاقتصادية، وهو يساعد المرضى من خلال تأمين الدواء لهم مجاناً وكذلك بعض الفحوصات، أما السلبية فتكمن بارتفاع عدد المصابين بالفيروس، حيث لاحظنا في السنوات الأخيرة ازدياد حالات الأمراض الجنسية”.
لكن المدير التنفيذي لجمعية براود ليبانون، برتو مقصو، يردّ ارتفاع أعداد المصابين بالفيروس إلى “عدم إجراء المواطنين فحوصات خلال فترة كورونا، وارتفاع نسبة التعرض للمخاطر خلال فترة الحجر الصحي، وبعد انتهاء الوباء بدأوا بإجراء الفحوصات، بالتالي من الطبيعي أن تشهد أعداد المصابين بالأمراض الجنسية ارتفاعاً”.
ويضيف “يحول تجريم الفئات الأكثر عرضة للفيروس في لبنان، أي عاملات الجنس والمثليين ومتعاطي المخدرات بالحقن، دون طلب هؤلاء للدعم الطبي وبسبب ذلك يشهد لبنان وبعض الدول ارتفاعاً في أعداد المصابين، بالتالي لا بد من أن تتغيّر نظرة المجتمع تجاه هذه الفئات، والتوقف عن استخدام كلمة ايدز كونها تعني مرحلة موت المريض”.
يوفّر البرنامج الوطني لمكافحة السيدا في لبنان “دواء الوقاية من الفيروس (PrEP ) مجاناً للرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال”، كما الحال بحسب مقصو “في الأردن وتونس وكذلك المملكة المغربية التي تعتبر السباقة في موضوع مكافحة هذا الفيروس”، ويضيف “كجمعية نحصل على دعم مادي عبر البرنامج الوطني لمكافحة السيدا لتقديم خدمات طبية ومنها الفحوصات السريعة السرية والدورية مجاناً”.
رغم تضرر مركز توزيع الدواء في الكرنتينا نتيجة انفجار مرفأ بيروت، لم ينقطع الدواء في لبنان، بل أُوكلت “براود” وجمعية أخرى تسليمه لـ 1800 مصاب مسجلة أسمائهم في وزارة الصحة، ويقول مقصو “الآن نسلّم الدواء عبر جمعيتنا إلى 300 مريض بطريقة تراعي خصوصيتهم، وهو من أهم الأنواع وإن كان جنريك، مع العلم أن أغلبية المرضى يأخذون حبة واحدة في اليوم”.
تشرك وزارة الصحة اللبنانية الجمعيات المحلية في تطبيق الخطة التي تضعها لمكافحة السيدا، وذلك بهدف الوصول كما تقول مديرة جمعية “العناية الصحية للتنمية المجتمعية الشاملة”، ناديا بدران، “إلى الأشخاص الأكثر عرضة للفيروس، لحثهم على إجراء فحوص مبكرة مجانية والبدء بالعلاج في حال ظهرت نتيجة أحدهم إيجابية، إضافة إلى القيام بحملات توعية ووقاية”، مشيرة في حديث لموقع “الحرة” إلى أنه “كل أربع سنوات يتم وضع خطة، والسنة الماضية وضعت خطة جديدة تتماشى مع البروتوكولات العالمية للقضاء على الفيروس”.
وعلى خطى استراليا يقترب لبنان بحسب برتو من تحقيق خطة مكافحة هذا الفيروس، والتي تقوم على اجراء 90 في المئة من الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة فحوصات طبية لكشف وضعهم الصحي، والتزام 90 في المئة من حاملي الفيروس بالعلاج ووصول 90 في المئة من المرضى إلى مرحلة عدم نقل العدوى.
توفّر جمعية “العناية الصحية للتنمية المجتمعية الشاملة”، بحسب بدران “فحوصات مجانية من وحدة طبية نقالة في الشارع، تضم أشخاصاً متدربين، يحيلون من يظهر حمله للعدوى إلى المركز لمتابعته والحصول على دوائه الذي يؤمنه البرنامج الوطني مجاناً لجميع المرضى المتواجدين على الأراضي اللبنانية من مختلف الجنسيات، ولدى الجمعية بحسب بدران خطاً ساخناً للإجابة عن أي استفسار بشكل سرّي”.
لكن مريض السيدا لا يشفى بشكل تام من العلاج كما يقول أبي حنا “إلا أن تناول الدواء بشكل صحيح يؤدي إلى السيطرة على الفيروس وعدم ظهوره في الدم، ما يسمح للمريض بمتابعة حياته بشكل طبيعي من دون أن ينقل العدوى، بالتالي يمكنه الزواج وإذا كانت امرأة يمكنها الانجاب”.
النجاح في مواجهة الإيدز مرتبط بشكل وثيق كما ذكر تقرير برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس الإيدز، بالقيادة السياسية القوية، ما يعني الاستعانة بالبيانات والعلم والدليل والتعامل مع عدم المساواة التي تعطّل التقدم، وتمكين المجتمعات ومنظمات المجتمع المدني من لعب دورهم المهم في جهود التصدي للمرض، وتوفير التمويل الكافي والمستدام، وأوضح البرنامج في تقريره أن مكافحة الإيدز تعززها أطر قانونية وسياسات لا تحط من حقوق الإنسان، بل تمكنها وتحميها.
وبفضل الدعم المقدم للاستثمار في القضاء على الإيدز بين الأطفال في العالم، استطاعت 82 في المئة من النساء الحوامل والمرضعات المصابات بالفيروس الحصول على العلاج في 2022، بعد أن كانت النسبة 46 في المئة في 2010، الأمر الذي أدى بحسب التقرير، إلى تقليص نسبة الإصابة بالفيروس بين الأطفال بمعدل 58 في المئة في الفترة ما بين 2010-2022، وهي النسبة الأقل منذ الثمانينيات.
وارتفع عدد المرضى الذين يحصلون على مضادات الفيروسات بمقدار أربعة أضعاف من 7.7 مليون في 2010 إلى 29.8 مليونا في 2022.
أما مقصو فيرى أن مكافحة هذا الفيروس تتطلب تقبّل المجتمع للمرضى وقيام الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة به بفحوصات دورية لمعرفة وضعهم كي يبدأوا بتناول الدواء إن ظهر أن نتيجتهم ايجابية للحؤول دون نقل العدوى، فالدراسات العلمية الأخيرة تؤكد أنه بعد ثلاثة إلى ستة أشهر من العلاج يصبح حامل الفيروس غير معد والعلاقة الجنسية معه أكثر أماناً من العلاقة الجنسية مع شخص لا يعرف وضعه، بالتالي يمكن أن يكون حاملاً للفيروس”.
من جانبها ترى أبو مرّة أن مكافحة انتشار الإيدز تتطلب التركيز “على البرامج الوقائية وبرامج خفض الوصمة والتمييز تجاه المصابين والأكثر عرضة للإصابة، وتعزيز خدمات الفحص السريع ومراكز تقديم الخدمات”.
أسرار شبارو – الحرة