السّجون اللّبنانيّة: انتحار ووفيات.. وتدهور صحي غير مسبوق
“المجرمون خارج السّجون وضحاياهم فيها”، “حاسبوا رياض سلامة ومن فجر المرفأ ثم حاسبونا”، “القضاء الذي لم يُطلق للآن حُكمًا عادلاً ومُعبرًا في ملف تفجير المرفأ، غير مؤهل للحكم بحقّ ما يناهز الخمسة عشر ألف سجين”. هذه العبارات وغيرها، عادةً ما تتصدر واجهة النقاشات والمطالبات المتعلقة بملف السّجون اللبنانيّة. وإن كانت هذه العبارات مبتذلة حدّ التكرار المُزمن، فإنها باتت تحمل جانبًا من الصوابيّة من العصيّ إنكاره. فإلى جانب الإهمال المقصود والشلّل المؤسساتي الذي جعل من السّجون اللبنانيّة، نموذجًا حيًّا للمجزرة الحقوقيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة التّي افتعلتها المنظومة اللبنانيّة طيلة السّنوات الماضيّة، فإنها باتت أيضًا مثار تساؤلٍ جوهري عن شرعيّة المنظومة بجسمها القضائي المشلول، وعجزها عن تحقيق العدالة والحكم باسم القانون.
واليوم وبعد أربع سنوات عن عمر الأزمة اللبنانيّة المستفحلة، ينفجر مجدّدًا ملف السّجون اللبنانيّة المكتظة والتّي لا تُراعي بديهيات الحقوق الإنسانيّة لنزلائها، متنازلةً عن غايتها الأساس في تأهيلهم، ذلك بنشر منظمة العفو الدوليّة تحقيقًا (بحوث خاصة بين أيلول 2022 ونيسان 2023) كشفت فيه عن وقائع صادمة وأرقاماً سلبيّة، وإهمالاً مقصودًا للسلطات، في وضع أي حلول ولو مؤقتة لتدارك الأزمة هذه. وقد عُنون التحقيق بالتالي: “بدلاً من أن يحظى بإعادة تأهيل، لقي حتفه: تضاعف عدد الوفيات في الحجز في خضم أزمة اقتصادية مستمرة منذ أربع سنوات”. وتضمن التقرير جوابًا من وزارة الداخليّة والبلديات ووزارة الصحّة العامة حول استفسارات المنظمة.
أرقام صادمة
وقد أكدّت المنظمة في تقريرها على أنه “يتعين على السّلطات اللبنانيّة أن تُعطي الأولوية بصورة مُلحّة لصحة السّجناء مع تضاعف عدد الوفيات في السّجون التي تديرها وزارة الداخلية، في عام 2022 مقارنةً بعام 2018.. وفي رسالة مؤرخة في كانون الثاني 2023، كشفت الوزارة أنه في عام 2022، وحده، توفي 34 شخصًا في مرافق الحجز التي تشمل السجون المركزيّة ومراكز الاحتجاز في قصور العدل ومخافر الشرطة، مقارنة بـ18 شخصًا في 2018 و14 شخصًا في 2015. وفي حين حين ازداد عدد نزلاء السجون من 9000 شخص في عام 2018 إلى 9500 في عام 2022، إلا أنه حسب الأرقام التي أطلعت قوى الأمن الداخلي منظمة وورلد بريزن بريف عليها، لا يمكن أن تفسر هذه الزيادة تضاعف عدد الوفيات في الحجز”.
وتابعت المنظمة: “ولم تشر وزارة الداخلية إذا كان أي من حالات الوفاة هذه قد صُنّف كوفيات غير طبيعية. ويمكن للوفاة في الحجز أن تكون مرتبطة بأسباب طبيعية، أو إهمال طبي، أو معاملة سيئة، أو تعذيب، وبناءً على الاحتجاج العام إثر وفاة رجلين في سجن رومية المركزي – أكبر سجن في لبنان – في آب 2022، كلف رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال وزارة الداخلية بإجراء تحقيق داخلي في القضية. ومن غير الواضح ما إذا كان التحقيق قد جرى من عدمه. وبالتالي، تقاعست السلطات اللبنانية عن إعلان النتائج التي توصلت إليها هذه التحقيقات”.
أما فيما يخص أزمة الاكتظاظ، فأشارت المنظمة إلى أن الأزمة ازدادت حدّتها نخلال الأزمة الاقتصادية. وتحتجز السجون في لبنان حاليا عددًا من الأشخاص يفوق طاقتها الاستيعابية بنسبة 323 بالمئة، وتُعزى الزيادة في الاكتظاظ منذ عام 2020 جزئيًا إلى عجز القضاء عن تسيير قضايا المحاكم، في ظل الإضرابات التي يُنفّذها العاملون في النظام القضائي في سياق الأزمة الاقتصادية. وتجدر الإشارة إلى أن 79.1 بالمئة من جميع المحتجزين في لبنان محبوسون حاليًا على ذمة التحقيق. وهي أعلى من نسبة الـ54 بالمئة التي سجلت عام 2017، وأعلى بكثير من المتوسط العالمي الذي يتراوح من 29 إلى 31 بالمئة. وقد أدى مزيج من الاكتظاظ الزائد وأوضاع الاحتجاز المزرية إلى تدهور صحة نزلاء السجون، ومن ضمن ذلك تفشي الأمراض الجلدية.
الأزمة الصحية
وإلى جانب أزمة الاكتظاظ المقيت بنسبة إشغال تتجاوز الحدود المعقولة، فقد علمت “المدن” بُعيد حديثها مع عدد من نزلاء سجن روميّة أن الأزمة الصحيّة قد استفحلت في غضون الأشهر الماضيّة بصورةٍ غير مسبوقة، من أمراض جرثومية كالكوليرا والتيفوئيد والتهابات جلديّة منتشرة، ولم يتم تحسين الظروف الصحيّة المتعلقة بالطعام والمياه الملوثة، هذا وناهيك عن انقطاع الكهرباء الدائم. يُقابل ذلك امتناع المستشفيات الحكوميّة والخاصة عن استقبال المرضى من النزلاء، وتقصير مصلحة الصحة في قوى الأمن الداخلي عن واجباتها في هذا الشّأن، فيما بات عبء الطبابة مرمي على كاهل العائلات لدفع تكاليف الطبابة لأقربائها في المستشفيات. وفي هذا السّياق أشارت منظمة العفو: “يُحتم على وزارة الصحة فرض تدابير تأديبية على المستشفيات التي ترفض على نحو غير قانوني تقديم العلاج لنزلاء السجون من دون الدفع مقدمًا”. خوصواً لكون قانون السّجون اللبناني ينصّ تحديدًا على أن وزارة الداخلية مسؤولة عن تقديم الرعاية الصحية لجميع الأشخاص الذين تحتجزهم.
وبين مناشدات أهالي الموقوفين والجمعيات الحقوقية والتخوف الرسمي من انفجار هذه الأزمة، والمطالبات المستمرة بتخفيض السنة السجنية لثلاث سنوات، فضلاً عن العفو العام، يعيش نزلاء السجون الخمسة وعشرين على امتداد الأراضي اللبنانية أفظع أشكال الإهمال والمظلومية التّي وصلت حدّ تضاعف أعداد الوفيات، وهنا تُشير نائبة رئيس تجمع أهالي الموقوفين في حديثها إلى “المدن” قائلةً: “تتعدد أسباب الوفيات في السّجون. وكما هو معلوم طبياً، فإن البيئة المحيطة بالمريض وظروف العناية الصحيحة وتأمين الاستشفاء اللازم هي أهم أسباب تعافي المريض. وكل ما سبق غير موجود، بل نقضيه التام هو السائد في سجون لبنان. العدوى الجلدية وغيرها من الأمراض المعدية تنتشر بين السجناء. والسبب واضح، الاكتظاظ وعدم توفر الرعاية الصحية اللازمة. والعنوان العام هو الإهمال الطبي (قبل المرض وبعده). فلا وجود لظروف صحية تؤمن الوقاية اللازمة من انتشارها من رعاية واهتمام بالنظافة والفحص الدوري للسجناء وتأمين ما يلزم”.
وتستطرد الصلح: “ومن ناحية أخرى فإن الضغط النفسي والضيق الشديد، تسببا لعدد من السجناء بأزمات قلبية وأمراض نفسية حادّة. ومنهم من انتحر نتيجة ذلك، وأنهى هذه المعاناة بنفسه. والسبب الرئيس لذلك الإهمال القانوني والتأخر في المحاكمات لسنوات. فهل يعقل أن يكون عدد من السجناء موقوفين في ملف ما يقارب 10 سنوات كاملة من دون محاكمة ومن دون لائحة اتهامية تحدد واقعهم الجرمي؟! والحلول العملية إما وقتية كاقتراح السنة السجنية وتخفيضها من 9 الى 6 أشهر، والتحديد المنصف للإعدام والمؤبد، وألا يحصل ظلم جديد لهم. وكذلك إنهاء التوقيف الاحتياطي بقرار يستند للمادة 108. لذلك، الحل اليوم ليس عند القضاء إنما عند مجلس الوزراء وعند مجلس النواب. والتأخر بالحل يزيد الأزمة يوماً بعد يوم”.
إذاً، بالرغم من كل الادعاءات التّي تجزم بأن مشكلة السجون هي مشكلة مركبة، فإن التقصير الرسمي بحقها خير دليل على التخاذل غير المبرر. فإن كانت السجون هي مراكز لتأهيل نزلائها بعقوبات عادلة ومعبرة، فإنها في لبنان باتت مرتعًا للظلم.. والموت أحياناً، على شاكلة باقي المرافق العامة التابعة للدولة اللبنانيّة المنكوبة.