بين فرنسا ولبنان… “المنظومة الحنونة”
يرتبط تعبير “الأم الحنون” بفرنسا عند اللبنانييين، وينظر معظم اللبنانيين بعين الصداقة والعائلية الى فرنسا على عكس علاقات الكثير من البلدان التي كانت تحت انتداب الدول العظمى عبر التاريخ، بحيث تحمل شعوبها كراهية للدولة المنتدبة.
ارتبط لبنان ثقافياً وعاطفياً أيضاً بفرنسا وكادت تكون اللغة الفرنسية رديفة للغة العربية، وأسهمت الارساليات، الثقافية والدينية والصحية بهذا الأمر، ليصبح على مر التاريخ الممر الفرنكوفوني الوحيد على منطقة الشرق الاوسط.
وعلى الرغم من أن هذا الارتباط كان بطريقة غير مباشرة يعني جميع اللبنانيين، ارتبط عاطفياً وثقافياً ودينياً ارتباطاً وثيقاً بالطائفة المسيحية.
ولكن في السياسة ومع انكفاء الدور الفرنسي بعد الحرب الباردة والاوروبي عموماً عن المنطقة، الذي ارتكز على علاقة مع الزعماء المسيحيين، ودخول الولايات المتحدة لاعباً أساسياً في سياسات دول منطقة الشرق الأوسط، بقيت السياسة الفرنسية تؤدي دوراً في الداخل اللبناني.
ظهر الدور الفرنسي واضحاً بعد اتفاق الطائف كدولة ضامنة للاتفاق، وأمنت له مظلة أوروبية ومالية، واستطاع الرئيس الشهيد رفيق الحريري من خلال علاقاته الشخصية مع الرئيس الفرنسي الاسبق جاك شيراك، أن يبقي هذه الرعاية، فحمت باريس التركيبة السياسية اللبنانية، وتدخلت مرات عدة عبر مؤتمرات من باريس-1 الى باريس-2، وكانت كلما تتعثر الطبقة السياسية تتدخل باريس لتنقذها.
وبعد اغتيال الحريري، والتغيير الهائل على مستوى العلاقات الدولية، وما رافقه من قضايا وخصوصاً ما سُمّي الربيع العربي، استكملت فرنسا سياساتها في السياق نفسه، وغطت الاتفاق السوري-السعودي، أو ما يُعرف بالسين-سين، وعقدت باريس وسان كلو وسيدر، الذي يأتي ضمن السياق السابق، وهو العمل مع المنظومة الحاكمة، وحمايتها.
وخلال هذا المسار، وعلى الرغم من كونها ملجأ للقادة المسيحيين المنفيين، العماد ميشال عون، والرئيس أمين الجميّل، كانت العلاقة مع المسيحيين تبلغ أدنى المستويات، بحيث باتت تُعدّ كضامن لإبعادهم عن الحياة السياسية من خلال دعمها السلطة القائمة آنذاك.
وعلى الرغم من التحسن الذي حلّ في العلاقة بين القيادات المسيحية وفرنسا عقب اغتيال الحريري، نتيجة التقاء المصالح بما يختص بالانسحاب السوري، استمر الدور الفرنسي لاحقاً في المسار ذاته بعيداً عن هذه القيادات.
ومع اندلاع حراك 17 تشرين، اعتقد الجميع أن تغييراً فرنسياً بدأ يطرق على السياسة الفرنسية، وخصوصاً أنها قامت بجهد مع بعض جمعيات ونشطاء المجتمع المدني الطامحين للتغيير والرافضين للمنظومة السياسية التي دخل فيها جزء من المسيحيين هذه المرة، وبنت علاقات مع جزء كبير مع هذه الجمعيات، لتأتي زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد انفجار مرفأ بيروت كضربة قاضية لهذا الأمر، فهو من جهة فك العزلة الدولية عن رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، وأعاد تعويم المنظومة الجديدة المترنحة عبر جمعهم من جديد على طاولة ومحاولة الخروج بتسوية، على غرار التسويات السابقة، وذهبت كل الوعود التي أطلقها ماكرون من وقتها طيّ النسيان، فلم تشكّل حكومة اختصاصيين مستقلة ولم ينجز التحقيق بل أقفل وطُوي ولحق غيره من الملفات، وأعيد أحد أعمدة المنظومة السابقة رئيساً للحكومة بدعم فرنسي واضح.
ويستمر المسار حتى يومنا هذا، مع تغيير بسيط، فالسنية السياسية التي غطتها في السابق تشتتت، ولم تعد فاعلة وانتقلت الى مكان آخر أي ما يسمى الشيعية السياسية وهو بدأ يتظهر في الوقت الحاضر بالتقارب الحاصل بين باريس و”حزب الله”.
يعترف مختلف الأطراف السياسية بتأثير للسياسة الفرنسية في لبنان لكونها تُعدّ وسيطاً بين الدول المؤثرة في المنطقة وفي لبنان، من خلال شبكة علاقات مع الولايات المتحدة الاميركية ودول الخليج، وحتى الأمس إيران، كذلك تجمعها علاقات مع مختلف الاطراف السياسيين اللبنانيين، إلّا أن تأثيرها محدود ضمن إطار الوساطات لكونها تستطيع الكلام مع الجميع من دون “المونة” على أي طرف.
بيد أن هذا الطرح خلق ردة فعل مسيحية ربما تكون الاكبر والاعنف باتجاه باريس، وربما تغريدة النائب نديم الجميّل الاربعاء أثناء الاجتماع المسيحي في بكركي خير دليل على الموقف، فمع بداية اللقاء الروحي المسيحي الذي جمع النواب المسيحيين في بكركي وأثناء وجود جميع النواب داخل “بيت عنيا” قال الجميل: “للأسف في السنوات الاخيرة لم تر فرنسا في لبنان سوى مصالح وصفقات، من التنقيب وصولاً الى المرفأ والبريد وذلك على حساب مصلحة اللبنانيين”.
وأضاف: “على فرنسا أن تعود الى دورها الطبيعي… دور الداعمة و”الأم الحنون” للبنان، لا لأزلام إيران، وأن تتخلى عن دور السمسار الذي لا يليق بها وبتاريخها”.
ما يقوله الجميّل علانية تقوله القوات اللبنانية مواربة عبر وسائل إعلامها وتسريباتها، بحيث تشن هجمة عنيفة على الدور الفرنسي، أما الحزب التقدمي الاشتراكي الذي تتمسك مصادره بحسن العلاقة مع فرنسا، وبدورها الأساسي بالوصول الى تسويات، فهي تؤكد أن أي خيار خارج إطار موافقة دول الخليج والمملكة العربية السعودية وتغطية مسيحية يمكن أن يؤدي بلبنان الى مكان آخر”، وبالتالي تبقى الكلمة الأرفع في هذا المكان للمملكة العربية السعودية.
أما “التيار الوطني الحر”، الذي شكل الدور الفرنسي الأخير بعد 17 تشرين بإعادة تعويمه وفك عزلته الدولية، فيرى أن العلاقة مع فرنسا هي علاقة صداقة، وأن الدور الفرنسي مطلوب لتقريب وجهات النظر وخلق مساحة حوار وليس لفرض سياسات معينة على فريق مقابل آخر وبالتالي ما دام الدور الفرنسي يتجاوز هذا الدور فهو لا يعنينا.