تباينٌ أميركيّ – فرنسيّ في ملفّ الرئاسة
لم يظهر التباين الفرنسي الأميركي في شأن الرئاسة في لبنان بهذا الوضوح إلا بعد مؤتمر باريس، وما نجم عنه من موقف سعودي معارض للخطوات الفرنسية. وهذا يضع الاستراتيجية الفرنسية في ملفّ الرئاسة في مهبّ الريح.
لا يمكن تخطّي التباين الأميركي – الفرنسي في التعاطي مع لبنان، في شأن الانتخابات الرئاسية، في مرحلة كان الاعتقاد فيها أن منحى الأحداث الدولية سيجعل من السهل حصول تقاطع في النظرة الأميركية والفرنسية تجاه لبنان. لكن ما حصل منذ اللقاء الخماسي، يتبلور يوماً بعد آخر، في أبعاد تأثير رؤيتَين مختلفتين. ولا يمكن القفز فوق هذا التباين، حتى لو كانت الأنظار قد اتّجهت نحو الاتفاق السعودي – الإيراني، الذي من المبكر استخلاص نتائجه، لأنه يعكس من خلفه تدرّج مواقف البلدين ومعهما حقيقة الموقف السعودي، كنقطة انطلاق.
بعد انعقاد لقاء باريس، أخذ الكلام مداه في تحديد رؤية كل من الرياض وباريس للوضع اللبناني عموماً وملف رئاسة الجمهورية خصوصاً، وما ظهر حتى الآن موقف أميركي في التماهي مع السعودية. ومن الواضح بالنسبة إلى دوائر سياسية مطّلعة على مسار هذا التقاطع الأميركي – السعودي، أن لقاء باريس لا يزال يشكل انطلاقة أساسية في ضرورة فهم ما جرى بعده من مواقف عكست نفسها في ملف رئاسة الجمهورية. فلو لم يفشل مؤتمر باريس، لما كان الثنائي الشيعي اتّجه الى تبنّي خيار ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، بحسب خلاصة أولية لهذه الدوائر، ولما كانت باريس استعجلت خوض مغامرة غير محسوبة. استناداً الى أن ما جرى حينها عكس حجم التباين بين فرنسا والسعودية التي وقفت معها قطر، في مقاربة الملف اللبناني، فيما حيّدت مصر نفسها. وهذا الاختلاف في تعاطي البلدين مع لبنان والقوى السياسية فيه ليس جديداً، لكنه في الآونة الأخيرة أصبح أكثر ظهوراً وحدّة، ولا سيما أن باريس حاولت القفز فوق موقف الرياض في جذبها نحو خيارات رئاسية وتسويات لم تقبل بها السعودية ورفضت الانجرار إليها، وخصوصاً أنها لم ترحّب بتعاطي باريس معها كونها دولة مانحة فحسب.
فإذا كانت العناوين العريضة من استقرار لبنان ومن التشديد على أمنه متفقاً عليها، إلا أن التعبير الأساسي حول هذا الاستقرار وترجمته، يبدأ في ملف رئاسة الجمهورية. وهنا حصل اختلاف واضح ولا يزال في كيفية مقاربة فرنسا للملف، وتحديد المواصفات وفي صياغة أي تسوية بين رئاسة الجمهورية والحكومة. مع ظهور موقف سعودي حاسم في ما خصّ رؤية فرنسية لشكل التسوية الرئاسية – الحكومية، أو لتحديد مواصفات المرشح المقبول، وقفت واشنطن بوضوح الى جانب السعودية. وهذا ما أظهر جانباً آخر من المشكلة الفرنسية مع المشاركين في لقاء باريس.
في الأشهر الأخيرة، برز أكثر من مرّة حجم الاختلاف الأميركي – الفرنسي في التعاطي مع لبنان. حاولت باريس الاستفادة من تراجع الحضور الأميركي، للدفع نحو خيارات اعتقدت أنه يمكن تمريرها، وفقاً لتوسع خريطة علاقاتها في لبنان، ولا سيما مع حزب الله. ورغم أن واشنطن بدت منكفئة في الأشهر الماضية، ولم تعطِ مواقف جازمة في حسم ملف رئاسة الجمهورية، أظهرت بانحيازها الى السعودية أنها اختارت جانباً واضحاً. وبتحديدها، منذ وقت قصير، مواصفات محدّدة في التعاطي رئاسياً أبلغتها الى جهات معنيّة، ظهر أنها تستبعد فرنجية كمرشح للثنائي الشيعي. وواشنطن بدت حازمة في تبليغ رسائلها، على عكس المراحل السابقة التي كانت تظهر فيها ابتعادها عن اتجاهات حاسمة.
وهذا الموقف من شأنه أن يشكّل إحراجاً أكبر لباريس التي اعتقدت أن دبلوماسيّتها في بيروت، التي تنسّق مع دوائر في الإليزيه حول الانتخابات الرئاسية، قادرة على تحقيق خرق غير مسبوق، وقد روّجت لقدرتها على تحقيق تقدم لافت. ومع أن باريس تلقّت ردود فعل لبنانية اعتراضية حيال خطواتها وما تعمل عليه دبلوماسيّتها، بقيت مصرّة على أسلوب عملها، الى أن جاء الموقف السعودي وتأييد واشنطن له، ليضع الفريق الفرنسي مجدداً في مواجهة رفض قاطع لسيناريو ترسمه، كأداء وأساليب التعامل مع القوى السياسية، وكمواصفات وتسوية تشمل رئاسة الجمهورية والحكومة وهذا أمر أساسي عبّرت العاصمتان عن رفضهما له. فمن غير المقبول تكرار ما حصل أكثر من مرّة بتطيير الاتفاقات التسووية حول رئاسة الحكومة في عهدَي الرئيسَين ميشال سليمان وميشال عون.
ووفق المعلومات، فإن موقف واشنطن يتّجه الى أن يكون أكثر حسماً مع وضع ملفّ الرئاسة على الطاولة في شكل أوضح من الآن وصاعداً، ليبرز تمايزها أكثر عن باريس. أما لجهة ما يتوقّع من فرنسا، فالتعويل على أن ردّة فعل واشنطن والرياض كفيلة بأن تكبح الاتجاه الفرنسي الذي كاد أن يطيح اللقاء الخماسي، لأنّ ما ظهر من بوادر أولية أوحى بأن باريس لم تستوعب بعد حجم الرفض السعودي والأميركي لسياستها في لبنان. وقد لا تصبح استدارتها سريعةً بالقدر المطلوب حفاظاً على دور تحاول الاستمرار فيه، رغم انحسار تأثيراتها العملية.