البطالة تتسرب إلى السجون…
قبل الأزمة الإقتصادية كان السجناء يقومون بعدد من الأعمال الحرفية التي تدر عليهم القليل من المال، تعينهم في سجنهم وتخفّف قليلاً عن ذويهم، وتساعد بعضهم على إتقان عمل، ولو كان بسيطاً.
اليوم تسرّبت البطالة أيضاً إلى السجون. يكشف السجناء والسجينات على حدّ سواء، في حديث مع “المدن” صعوبة محكوميتهم في ظلّ الأوضاع الاقتصاديّة الراهنة بعدما توقفت الأعمال الحرفية ذات الفائدة الماديّة لهم جرّاء توقيف التمويل الخاصّ بها من قبل الجهات المانحة، كما من الجهات الرسميّة أيضاً.
تروي السجينة “ك. د.” (التي لم نكشف عن اسمها بناءً على طلب محاميها)، لـ”المدن”، كيف تبدلّت أحوالهنّ “منذ عام 2020، وتحديداً مع بداية الإنهيار الماليّ، حيث توقفت الجمعيات التي كانت تُعنى بتأمين حاجات المساجين عن تمويل المشاريع الحرفية بعدما كانوا يعتاشون ويربحون من بيعها “كَم ليرة” تُسندهم في عزلتهم الموقتة وتُخفّف عن كاهل ذويهم مصاريف السجن.
لا عمل داخل السجن
“كنّا نعتمد على المدخول الذي نجنيه من شكّ الخرز والتطريز والخياطة وصناعة الحليّ اليدويّة لشراء حاجاتنا من دكّان السجن في حين أهلنا غير قادرين على تأمينها بسبب الغلاء وتردّي الأحوال المعيشيّة، إلّا أنّنا نفتقد راهناً إلى الأدوات والمواد اللازمة التي غالباً ما أصبحت تُسعّر بالدولار، وبالتالي لم تعد من أولويات الدولة أو الجمعيات، ولا سوق لها، إذ قالوا لنا إن الحاجة الأساسيّة اليوم تصبّ في خانة تأمين اللباس والبطانيات والفوط الصحيّة، ومع هذا لم نحصل على أيّ منها رغم كلّ هذا التقشف، وأكثر ما يُحزننا عدم وجود نشاطات بديلة تُلهينا في عزلتنا”، تقول السجينة.
بالنسبة إلى السجين محمد سعيد لم يختلف الوضع كثيراً، فما بين سجن النساء والرجال “تجربة لا تتمناها لعدوّك”.
.. ولا خارجه
عادةً، يُشير مصطلح “السجن” إلى المكان الذي يتم فيه إعادة تأهيل مَن ارتكب جرماً معيّناً، ويساعده على اكتساب مهارات جديدة ومفيدة. ليس جديداً القول أن هذا ليس واقع الحال في لبنان. فإضافة إلى أزمات السجن المتعددة والمعروفة سؤال يقلق عددا كبيراً من السجناء: أيّ مستقبل وأي مصير ينتظرنا خارج أبواب السجن؟
“شو بدي اضهر أعمل برّا السجن؟ خلليني هون أرحم من برّا وأوفر عالجيبة”. هكذا يعبّر محمد عن ظروفه الاقتصاديّة بعد “وصمة العار” التي كُتبت على جبينه نتيجة السجن، “فمَن يرغب بتوظيف صاحب سوابق لديه؟”، يسأل محمد.
يشرح السجين في حديثه لـ”المدن” صعوبة أوضاع عائلته الاجتماعيّة التي ما عادت تزوره كالسابق نتيجة ارتفاع تكلفة المواصلات. “أتذكر كيف بكت أمي فرحاً عندما أخبرتها بأنّني أعمل بما يُرضي الله داخل السجن، فأنا كنتُ أعتمد على الحُليّ التي أصنعها والتي كانت تباع في الأسواق الميلاديّة والشعبيّة لأعيش، وكنتُ أرسل ما يفيض عني لأهلي، ولو كان قليلا وشكلياً، لكنه يشعرهم ويشعرني بوجودي إلى جانبهم . أمّا اليوم فأنا أخشى خروجي من هنا لأنني سأعود حتماً للسرقة ودولتي السبب بذلك”.
أزمة قديمة متجدّدة
عاد تسليط الضوء على الأحوال السيّئة السائدة في السجون اللبنانية. فالأزمة لم تعد مقتصرة على الاكتظاظ ، أو الاستشفاء أو حتّى الطعام، إذ وصلت سيول العاصفة الاقتصاديّة إلى الجانبَيْن التأهيلي والإصلاحيّ.
تُشير نائبة رئيس جمعية لجان أهالي الموقوفين في السجون اللبنانيّة رائدة الصلح لـ”المدن” إلى أن “سياسة التقشف حدّت من حقوق السجناء بشكل كبير، ولعلّ أكبر دليل على ذلك النقص الحاد الحاصل في الأدويّة، لا سيّما المزمنة منها، ناهيك عن عدم حصول معظم المساجين على بطاقات تشريج لمكالمة ذويّهم، وإن وُجدت بالكاد تكون مرّة واحدة بالأسبوعين أو بالشهر، إضافة إلى المبالغ الماليّة التي يتحملها السجين في حال تعرّضه لأيّ عارض صحيّ للدخول إلى المستشفى، طبعاً دون ذكر تكاليف العلاج الباهظة وفق كلّ حالة”.
“الوضع مُزرٍ، ولا نسمع عن أمور إيجابيّة أو تعليميّة للأسف، فقط نسمع عن المعاناة والنسيان وترك السجناء لمصيرهم المؤلم والبرد والعوز وقلّة الحيلة. فبعضهم يشترون على نفقتهم الخاصّة الخرز ليصنعوا منها الحليّ أو ليقوموا بالتطريز والحياكة، ولكن صناعاتهم لا تسوّق لأن الجمعيات المعنيّة لم تعد قادرة على تصريفها أو تأمين أماكن لعرضها حتّى”، تقول الصلح.
تراجع عمل الجمعيات
لا شكّ بأن البرامج التوعوية والنشاطات التي تُجرى داخل السجون بمبادرات من المنظمات الدولية والجمعيات المحليّة تمنح السجناء فرصة لتعلّم مهنة جديدة تخدمهم بعد خروجهم، وتُعطيهم مساحة لتفريغ طاقتهم بعمل ذي منفعة عامة.
في هذا الإطار، يوضح رئيس جمعية عدل ورحمة الأب نجيب بعقليني في اتّصال مع “المدن” أن “هذه الأنشطة ضروريّة تماماً كالماء والخبز في يوميات المساجين، لأنّها تمنحهم الطاقة اللازمة لامتصاص غضبهم وحزنهم وفي الكثير من الأحيان الاعتراف بأخطائهم”.
يشير الأب بعقليني إلى أن ” نشاط الجمعيّات تراجع مؤخراً بعض الشيء بسبب الأوضاع العامة، فبعدما كنّا نؤمّن المواد اللازمة كالخرز والأوراق والأقلام وغيرها للسجناء، ونقوم بعدما بتنظيم معارض لبيع وعرض أعمالهم، أصبحنا نعجز عن تحقيق كلّ ذلك، لا سيّما وأن مشاغل الخياطة في السجن بحاجة لإعادة تأهيل وتجديد للماكينات. حالياً نحاول تسويق أعمال المحكومين مؤبد أو إعدام قدر الإمكان، والمفترض على الدولة إنشاء مشاغل صناعيّة لإنتاج صناعات محدّدة للأسواق المحليّة، وبالتالي توظيف المساجين، فبهذه الطريقة نخدم السجين ونجعله منتجاً اجتماعياً، ونحرّك العجلة الاقتصاديّة، ويُمكن اقتطاع مبالغ محدّدة من قيمة الربح لتوسيع وترميم السجون أقلّه لتصبح صالحة للتأهيل”.
خطة قريبة لـ”الداخلية”
من جهتها، ترى وزارة الداخلية أن “الأولويّة اليوم لتأمين إقامة صحيّة وتوفير الطعام للمساجين”.
ويلفت مصدر، فضّل عدم الكشف عن اسمه، في وزارة الداخليّة لـ”المدن” إلى أن “الوزير بسام مولوي يُعطي أهميّة لملف السجون، وهو على عِلم بمشاكلها كما بمطالب المساجين، ويعمل على إعداد خطة سيُعلن عنها قريباً في هذا الإطار، مع العلم أن موارد الوزارة محدودة والتأخير في دفع مستحقات السجون يقع على عاتق وزارة الماليّة”.
مشكلة السجون متشابكة، ولا يمكن حلّها إلّا بتطبيق خطة واضحة تتصل بالدرجة الأولى بإصلاح القضاء، وتفعيل العقوبات البديلة، أيّ العمل الاجتماعيّ مثلاً بدلاً من السجن في أفعال جرمية معيّنة. فهل تتحرّك الدولة قبل الانفجار الكبير