إقتصاداهم الاخبارمحليات

فرصة نادرة لوقف السرقــة وإنقاذ المودعين

مِن ضمن الاشكاليات المطروحة في إطار البحث عن حلول للأزمة المالية والاقتصادية، النقطة المتعلقة بإنشاء صندوق لاستعادة الودائع، مهمته تأمين إيرادات، عبر وسائل متنوعة، لتكوين أصول مالية تُستخدم في تأمين إعادة الودائع الى أصحابها.هذا الصندوق مدار نقاشات وخلافات انطلاقاً من نظريتين تتجاذبانه: النظرية الاولى تقول انه لا يجوز استغلال اي مرفق عام، وتحويل إيراداته لسد الفجوة المالية، على اعتبار انّ هذه الايرادات هي من حق كل اللبنانيين، ولا يمكن تجييرها للمودعين دون سواهم.

النظرية الثانية تقول ان ايرادات هذا الصندوق لن تُجيّر للمودعين حصراً، بل انّ الفائض، او نسبة مئوية مُتفق عليها مسبقاً، ستذهب الى المودعين. ومثل هذا الامر لا يؤمّن اعادة الحقوق الى أصحابها فحسب، بل يساهم في تسريع التعافي الاقتصادي.في الواقع، ما ينبغي التركيز عليه في هذا الموضوع، هو الفرصة المتاحة امام اللبنانيين للتخلّص من قسم أساسي من الفساد السائد في البلد. والواقعية تحتّم القول ان السياسيين الذين يرفضون كل انواع الشراكة او خَصخصة الادارة في المرافق العامة، لا يتخذون هذا الموقف انطلاقاً من حرصهم على أصول ومؤسسات الدولة، بل بسبب تمسّكهم بالسيطرة على هذه المؤسسات العامة.

ويعتبر البعض ان هؤلاء السياسيين يتصرفون وكأنّ المؤسسات العامة هي ملكية خاصة لهم. لكنّ الواقع غير ذلك تماماً، لأنّ مَن يمتلك مؤسسة يرفض تعريضها للخسائر والافلاس. ما يفعله هؤلاء انهم يعتبرون أنفسهم شركاء مُضاربين في هذه المؤسسات العامة، يوظفون فيها المحاسيب بلا سقف، ويسرقون من إيراداتها ما تَيسّر، ويسمحون للأزلام بالسرقة والهدر، من دون أن يخشوا التعرّض للخسائر كما يفعل اصحاب المؤسسات. في المرفق العام، الأرباح للمضاربين، والخسائر على عاتق الخزينة والناس. وهذا ما جرى في كل المؤسسات، ومن ضمنها الكهرباء، وهذا هو السبب الحقيقي للانهيار الذي أصاب البلد منذ أواخر 2019.

من هنا، لا ينبغي مناقشة ملف صندوق استعادة الودائع وفق منطق افادة المودعين على حساب بقية المواطنين غير المودعين، بل ان حقوق المودعين فرصة للضغط على القوى السياسية التي تَستسيغ استمرار السرقة وتشغيل المحاسيب من كيس الدولة، لإجبارهم على رفع أيديهم عن كل المؤسسات العامة. وتأسيس ادارة جديدة تقوم على مبدأ الشراكة بين القطاعين الخاص والعام (PPP)، او تخصيص ادارات كل هذه المؤسسات، أو اللجوء الى الـBOT… كل الافكار التي تسمح برفع هيمنة القوى السياسية عن كل المرافق والمؤسسات العامة مقبولة، وهي تشكّل عامل خير للمواطن وللبلد، على عكس ما يدّعيه من يتحدث عن حماية أصول الدولة.

في الواقع، ليس مُستحبّاً فصل صندوق استعادة الودائع، عن صندوق «ضرب الفساد»، ولو أنّ الفصل يبدو عملياً وواقعياً اكثر. لكن هذه الفرصة للضغط على جهات سياسية تريد استمرار الفساد في المؤسسات العامة، قد لا تتكرّر، لذلك ينبغي الجمع بين الصندوقين، أي اعتماد مبدأ سحب كل المؤسسات والمرافق العامة من هيمنة السياسيين، وإقامة مشروع شراكة حقيقية مع القطاع الخاص.

وبالمناسبة، أصبح النواب اليوم أمام الامتحان الصعب. وما قالوه في «قدسية» الودائع حانَ الوقت لترجمته في القوانين الماثِلة أمامهم، ومن أهمها اقتراح قانون اعادة التوازن الى الانتظام المالي. ولا شك في انّ الزيارة التي قام بها النواب الاربعة الى واشنطن ترتدي أهمية استثنائية. والمواقف التي أعلنها هؤلاء مشجعة لجهة الحرص على حقوق المودعين، وعلى استمرارية القطاع المالي في البلد. لكنّ عملية إقناع صندوق النقد الدولي تحتاج الى دراسة مفصّلة عن مشروع صندوق استعادة الودائع وخفض الفساد، ضمن مؤسسة واحدة تتولى إدارة كل المرافق العامة، ومن ضمنها المطارات، المرافئ، الاتصالات، النقل، الطرقات، الكهرباء، المياه، الضمان الاجتماعي، استثمار الاراضي… هذه الدراسة ينبغي ان تقوم بها جهة مُحايدة، وان تكون ثمرة عمل مشترك بين جهات لبنانية متخصصة، وشركات عالمية معروفة، للخروج بخطة عمل تتضمّن خارطة طريق واضحة، قادرة على إعطاء توقعات علمية للتطوير المُبرمج الذي يمكن إدخاله الى المؤسسات العامة ومرافق الدولة. ومن خلال هذا البرنامج، لن يصعب إعطاء تقديرات مبدئية لتطور الايرادات المتوقعة خلال السنوات الخمس الاولى بعد بدء تنفيذ المشروع، ومن ثم تقديرات مُمنهجة على مدى عشر سنوات الى الامام. بهذه الطريقة، لا يتم إقناع صندوق النقد فحسب، بل ايضاً كل الدول الراغبة في مساعدة لبنان، والأهم ان اللبنانيين، المودعين وغير المودعين، سيقتنعون بأن هذا الطريق هو الأسلم والأنجع في الانقاذ واستعادة الثقة والازهار، وتقليص مجالات الفساد والسرقة والسمسرات لقسم كبير من الطبقة السياسية الحاكمة والفاسدة. أمّا الكلام عن صندوق لاستعادة الودائع من خلال استعادة الاموال المنهوبة والمهرّبة وما الى ذلك، فكلامٌ يُدغدغ المشاعر ليس إلّا. وفي حال النجاح في مهمة مستحيلة من هذا النوع، فخيرٌ وبركة. ولكن، لا يمكن الاعتماد على «الرومانسية» أو الشعبوية لإنقاذ البلد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى