وهل نصبح على فراغ بعد مغادرة عون لقصر الرئاسة؟
الفراغ هو تفريغ الوطن من مقوماته ومكوناته؛ وهكذا كان حال لبنان للسنوات القليلة الماضية. إنه “الفراغ الرئاسي المتعمّد” كما كان “الكساد الاقتصادي المتعمّد” وكما كان “التعثر المالي المتعمّد”. السلطة الحاكمة صاحبة الإختصاص بإحداث الانهيار الكبير هي واحدة والضحية هو الوطن والمواطن!
الممرّ الإلزامي لوصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية كان التخلّي عن إنجاز القرن بالنسبة للتيار الوطني الحر وهو “الإبراء المستحيل”. عمل “التيار” على إنتاج هذا المستند ليس لتبيان مكامن الفساد للمواطن اللبناني و/أو لمحاربة الفساد. من الواضح بأن الهدف الأساسي من وراء العمل على كتيّب الإبراء المستحيل هو لتحسين شروط التفاوض بين الأزرق والبرتقالي. هذا أيام ما كان محاربة “تيار المستقبل” والتصدي للحريرية السياسية عنوان نضال هذا المكوّن السياسي ظنّاً منهم بأن الحريري هو الحاجز الأساسي أمام وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. ولكن سرعان ما تبدلت الظروف وباتت الغاية تبرّر الوسيلة! التنازل عن محاربة الفساد مقابل الوصول إلى رئاسة الجمهورية كان من أسهل القرارات الاستراتيجية التي أخذتها قيادة تكتل “الإصلاح والتغيير”. وهكذا كان أول إخفاق للتيار البرتقالي: إعلان الحياد والصمت عن كل شخص تجاوز صلاحياته واستباح المال العام. وبعدها تم استبدال “الإبراء المستحيل” بـ”الصداقة والاصطفافات المزيفة”. لم يكن محاربة الفساد هدف من أهداف الرئيس عون؛ الحفاظ على المكاسب السياسية وتحقيق مكاسب جديدة خطف كل الأنظار:
• التجديد لرياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان، بطلب وبمباركة العماد عون، كان ضروري لتوسيع رقعة الاستفادة من وجود “التيار الوطني الحر” في السلطة رغم أن البديل عن سلامة – منصور بطيش، وزير الاقتصاد البرتقالي – كان حاضرا لتبوء موقع حاكم مصرف لبنان.
• سلسلة الرتب والرواتب كانت محطة أخرى من المحطات التي هدفت إلى تعزيز المكاسب السياسية من خلال توفير رشوات إنتخابية على حساب المالية العامة وسلامة الإقتصاد الوطني. عنوانها كان الفساد وليس لتحسين الأجور.
• قانون الإنتخابات تم تفصيله على قياس جبران باسيل وولد من رحم الصداقة والإصطفافات المزيفة. وكان التمثيل الحقيقي للمسيحيين من أبعد أهداف لهذا القانون. أنتج أسوء برلمان لدورتين، والنواب في هاتين الدورتين كانوا الأبعد عن تمثيل الشعب اللبناني. وفي سياق التشريع، كانت إنتاجية البرلمان هذا الأقرب إلى لاشيء يعود بالمنفعة للوطن والمواطن!
جميع الجهات الدولية ومؤسسات التصنيف الإئتماني العالمية حذرت من خطورة تفاقم العجز السنوي في الموازنة وتضخم الدين العام نسبة للناتج القومي وطلبت من الدولة اللبنانية الإسراع بإقرار الإصلاحات البنيوية الضرورية، وأكدت على أن الإصلاح هو الممر الإلزامي لأي مساعدات للبنان. تجاهلت سلطة فخامة الرئيس عون عن الإصلاحات متحصنة بـ”ما خلونا” وحصل الانهيار الكبير في ظل “الإنكار الكبير”!
• التعثر غير المنظم الذي تسبّب بدمار القطاع المالي في لبنان وأطاح بأموال المودعين، وحتى اليوم لا يوجد تحقيق أو أي تقرير يشرح للمواطن الأسباب الموجبة التي دفعت السلطة السياسية لاتخاذ القرار بالتوقف عن خدمة الدين من دون إبلاغ الدائنين مسبقاً وفي ظل غياب خطة لإعادة هيكلة وجدولة الدين. التعثر لم يكن المشكلة، التعثر غير المنظم واللا مبالاة في إدارة أزمة الدين العام كان هو السبب والمسبب.
• الإصرار على عدم إقرار خطة إنقاذ وتعافي اقتصادي أطال أمد الأزمة وزاد من آلام المواطن.
• إنفجار مرفأ بيروت ودمار وقتل وتشريد في ظل غياب تام للمسؤولية وكأن الجهة المسؤولة عن إدارة مرفأ بيروت هي طرف غير لبناني وليس مقيم في لبنان. أكثر ما وصلنا إليه هو تقاذف التهم بين مكونات السلطة السياسية الحاكمة.
• الدعم العشوائي للاستيراد تم إقراره لاستقطاب ما تيسّر من دعم عشية الإنتخابات البرلمانية. ما أنتجه هذا الدعم كان تفشي الإحتكار والسرقة وإفراغ المركزي من احتياطاته باللعملة الأجنبية.
• انهيار العملة الوطنية في ظل إصرار وتصميم من قبل أصحاب القرار على عدم الوصول إلى اتفاق منتج مع صندوق النقد الدولي والإستمرار في مضيعة الوقت.
• تم إفشال التدقيق الجنائي بمصرف لبنان والوزارات متحصنين بالسرية المصرفية، وبهذا يكون الحديث عن هذا التدقيق الدقيق فقط للإستهلاك الإعلامي وفي المحصّلة أدى إلى تحصين الفاسد وتكريس الفساد والهدر في إدارة المال العام في هذا “العهد القوي”.
• تأخير إقرار موازنة العام 2022 لأكثر من عشرة أشهر، وحتى اليوم لم يُنشر القانون في الجريدة الرسمية والهدف من وراء ذلك التهرب من تحمل مسؤولية الإنفاق من خارج الموازنة.
• عدم إقرار قانون “الكابيتال كونترول” أكد على لا قانونية الضوابط على السحوبات التي مارستها المصارف من تاريخ إندلاع الأزمة في تشرين من سنة 2019 وعلى عجزهم في إدارة الأزمة إلى أزمات عدة بين المصارف والمودعين وصلت إلى إعلان حرب حقيقية من قبل المودعين.
• عدم إقرار التعديلات في قانون السرية المصرفية بطريقة يكون داعماً لإجراءات محاسبة الفاسد ومحاربة الفساد. ما تم إقراره يحصن الفاسد، وحتى تاريخ كتابة هذه الكلمات، لم يُنشر حتى اليوم في الجريدة الرسمية.
• إلغاء الإنتخابات الداعمة لل “لا مركزية”، إنتخابات البلديات والمخاتير، هدف إلى إبقاء السلطة والحكم بين أياديهم للحفاظ على مكاسبهم السياسية ولإستمرار بتقاسم ثروات الوطن. كل ذلك لن تكن صدفة.
• المزاجية بمقاربة ترسيم الحدود مع الدولة العبرية يحمل بتفاصيله الكثير من الإستغراب! ترك الحدود البرية عالقة لكي تستغل وتستعمل غب الطلب لتحصيل مكاسب سياية جرّد ترسيم الحدود البحرية من كل إيجابياته.
• إفشال تشكيل حكومة وإنتخاب رئيس للبنان وبهذا يكون الوطن اليوم من دون سلطة تنفيذية كاملة ومكتملة.
وبهذا يكون لبنان قد فُرِغَ من كل مقوماته ومكوناته خلال سنوات حكم العون الذي لم يكن هناك عون للبنان من وجوده! إطلاق صفة “الفراغ” على ما نحن عليه اليوم في لبنان ليس إلا كلام بالدستور ولكنه فارغ لجهة تحمل المسؤولية. إنه “الفراغ الرئاسي المتعمد” كما كان “الكساد الإقتصادي المتعمد” وكما كان “التعثر المالي المتعمد”.