“نعم للمعركة لا للحرب”… العدوان على غزة هكذا انطلق وهكذا انتهى
تحت عنوان: ” لماذا قصفت إسرائيل غزة الآن؟ ولماذا قبلت وقف إطلاق النار بسرعة؟”، كتب المهدي الزايداوي في موقع “الجزيرة” الالكتروني، المقال التالي:
قصف وصواريخ وشهداء، واستهداف للجميع دون استثناء، هذا هو ما يحدث في كل مرة تُعلن إسرائيل فيها عن موجة تصعيد عسكري جديدة تجاه قطاع غزة الذي تحاصره منذ سنوات وتستهدفه مرة بعد مرة، والحجة أمام العالم استهداف مجموعات “إرهابية” تعمل على تهديد أمن وأمان المواطنين الإسرائيليين، في إشارة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية.
بيد أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تدرك جليا أن معاركها الأخيرة مع المقاومة لم تنتهِ لصالحها، بل تكاد تكون العكس، إذ تعجز رغم ترسانتها المُدمِّرة عن تحقيق النصر الساحق الذي تسعى إليه في كل مرة، فينتهي الأمر بوساطة من إحدى دول المنطقة لوقف إطلاق النار حتى حين، بيد أن هذه النتيجة (التي تكررت هذه المرة أيضا) لا تُثني إسرائيل عن محاولات سحق القطاع، ولأسباب عديدة؛ منها ما هو جديد، ومنها ما هو قديم قِدَم احتلالها لفلسطين.
العدوان وسيلةً للدفاع
في مطلع أغسطس/آب الجاري، تمكَّنت دولة الاحتلال من اعتقال “بسام السعدي”، القيادي بحركة الجهاد الإسلامي، في مخيَّم جنين شمالي الضفة الغربية. واستنكرت حركة الجهاد هذه الخطوة التي وصفها بعض قادتها “بالمُهينة”، متوعِّدة بالثأر لأسيرها الجديد في سجون الدولة العبرية.
بعد اعتقال “السعدي”، اتخذت إسرائيل عدة خطوات بمحيط قطاع غزة خوفا من ردود سرايا القدس، الجناح المُسلَّح التابع للجهاد الإسلامي، إذ أفاد جيش الاحتلال في بيان له بإغلاق مناطق وطرق قريبة من السياج الأمني مع القطاع المحاصر. وقد أُغلِق أيضا شاطئ “زيكيم” الإسرائيلي، وأوقفت حركة القطارات بين “عسقلان” و”سديروت”، بالإضافة إلى إغلاق معبرَيْ “إيزي” و”كرم أبو سالم”. وفي السياق نفسه، أشار بلاغ للحكومة الإسرائيلية إلى أن “يائير لَبيد”، رئيس الوزراء، عقد جلسة للتقييم الأمني بهدف الاستعداد للتحديات التي قد تواجهها الأراضي المحتلة.
لم تتأخر الحلقة الثانية من مسلسل التصعيد، ليس من طرف حركة الجهاد الإسلامي، بل من طرف دولة الاحتلال، بعد أن استهدفت غارة إسرائيلية قطاع غزة وتمكَّنت من اغتيال القيادي “تيسير الجعبري”، قائد مناطق شمال قطاع غزة في حركة الجهاد، كما أسفرت الغارة عن استشهاد 15 فلسطينيا آخر في إطار العملية التي أعلن عنها جيش الاحتلال تحت اسم “الفجر الصادق”.
بعد نجاحها في اغتيال “الجعبري”، الذي فشلت في الوصول إليه مرات ومرات، واصلت “إسرائيل” عملياتها العسكرية على غزة، مسقطة عشرات الشهداء ومئات الجرحى، وسط احتفاء إسرائيلي بتحييد قيادات الصف الأول للجناح العسكري لحركة الجهاد، فسرعان ما وصلت نيران دولة الاحتلال إلى “خالد منصور”، قائد مناطق جنوب قطاع غزة، فأسقطته شهيدا هو الآخر.
برَّرت دولة الاحتلال عمليتها العسكرية باستهداف مَن تصفهم بـ “العناصر الإرهابية” التي تُشرف على عمليات تستهدف الجنود والمواطنين الإسرائيليين، وهي رواية تسعى عبرها لتسويق صورة الدولة التي تدافع عن نفسها من الخطر الخارجي. بيد أنها رواية تتعارض بوضوح مع الوقائع على الأرض، فأثناء العملية الأولى، لم يكن الموت مصير “الجعبري” وحده، بل ارتقت معه الطفلة “آلاء قدوم” ذات الأعوام الخمسة، التي انتشرت صورها في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بعد أن أنهى القصف الإسرائيلي حياتها وهي تلعب أمام منزلها بحي الشجاعية شرق مدينة غزة. وتُشير الأخبار الواردة من فلسطين إلى أن “آلاء” ليست الطفلة الوحيدة التي استشهدت في العمليات الجارية حتى الآن، حيث وصل عدد الأطفال الذين لاقوا المصير نفسه إلى 6 أطفال حتى وقت كتابة هذا التقرير.
ورقة الموت الانتخابية
استغلَّت إسرائيل فترة ما بعد اعتقال “السعدي” في الاستعداد لتلك الجولة الجديدة من مواجهتها مع المقاومة، فقد بدأ جيش الاحتلال مباشرة بعد هذا التصعيد إعداد القُبة الحديدية لهجوم صاروخي محتمل على الأراضي المحتلة، إلى جانب جمع معلومات استخباراتية دقيقة حول عدد من الأهداف المطلوبة، ومن بينها معلومات حول القيادات التي اغتالتها في وقت لاحق. كما جهَّزت تل أبيب نفسها لجميع السيناريوهات المحتملة، ومنها سيناريوهات تحاول تجنُّبها مثل إطالة أمد هذه الجولة أو تدخُّل حزب الله اللبناني لصالح المقاومة عبر قصف الأراضي المحتلة من جنوب لبنان.
لا يسعنا قراءة هذا التصعيد الإسرائيلي شبه المفاجئ بعيدا عن الأوضاع الداخلية في دولة الاحتلال نفسها، فقد اعتبر محللون أن الانتصار المعنوي في هذه الحرب سيساعد رئيس الوزراء بالوكالة “يائير لَبيد” في كسب أوراق انتخابية جديدة قبل الانتخابات البرلمانية المُقبلة المُقرَّرة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ويرغب “لبيد” الذي لم يأتِ من خلفية أمنية في الظهور بمظهر الشخص الذي لا يقل أهلية ولا حزما في التعامل مع “أعداء إسرائيل” عن رؤساء الحكومات السابقة، وهو ما يُفسِّر اتخاذه قرار الحرب بشكل استباقي.
“يائير لَبيد” رئيس الوزراء الإسرائيلي
يراهن رئيس الوزراء الإسرائيلي على أن عملية اغتيال القيادات الجهادية سترفع أسهمه الانتخابية، لكنه في الوقت نفسه لا يملك ضمانات كافية بأن المواجهة المسلحة ستقف عند هذا الحد، وأن المقاومة لن ترد ردودها الموجِعة المُعتادة بشكل يؤثر سلبا على صورته الانتخابية، وهو ما يفسر مسارعته إلى قبول وقف إطلاق النار. من جانبه، يرى “آرييل شميدبِرغ”، مدير أخبار قناة “إسرائيل 24″، أن من الصعب اعتبار تحرُّك “لَبيد” ووزير دفاعه “بيني غانتس” أمرا مدفوعا بأهداف انتخابية فقط، لأن نسبة الخطر مرتفعة جدا في هذا النوع من العمليات التي يظل تحقيق الانتصار الواضح فيها غير مضمون بالمرة، فهذه العملية، على حد قول “شميدبِرغ”، تأتي في إطار سياسة أمنية إسرائيلية شاملة تكرَّرت في حروب كثيرة على القطاع المحاصر، ولم تظفر بالنصر الحاسم.
على كل حال، ستكون هذه الجولة التصعيدية مهمة للغاية بالنسبة إلى “لَبيد”، الذي يجلس في رئاسة الحكومة منذ 5 أسابيع ليس إلا، وهي المرة الأولى التي سيكون فيها رئيس الحكومة الإسرائيلية بموقع اتخاذ القرار في موضوع مهم ومصيري مثل إعلان الحرب على غزة، كما سيكون العدوان الحالي هو الأخير ربما لـ”أفيف كوخافي”، رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، الذي شارفت ولايته على الانتهاء، ومن ثمَّ يبحث هو الآخر عن الخروج من منصبه بانتصار مهم في مسيرته، أو على أسوأ الأحوال الرحيل دون هزيمة موجِعة.
من جهتها، لم تفوِّت الأحزاب الإسرائيلية المنافِسة الفرصة للتحرُّك دعما للمواجهة العسكرية قبل الانتخابات، فقد أجمعت على دعم الحكومة في حربها على غزة، وهو ما عبَّر عنه “بنيامين نتنياهو”، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، في تغريدة قال فيها إنه يدعم الجيش الإسرائيلي، ويُصلي من أجل نجاحه في مهمته. وقال “بتسلئيل سموتريش”، النائب عن حزب الصهيونية الدينية، في رسالة وجَّهها إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية، إنه يدعم جميع التحرُّكات التي تهدف إلى القضاء على تهديدات العدو رغم الاختلاف السياسي. كما حظي “لَبيد” بدعم أطراف أخرى مثل سلفه “نفتالي بينيت” و”ميراف ميخائيلي” نائبة حزب “العمل” اليساري، فيما ندَّدت القائمة العربية بقصف غزة مُعتبِرة إياه جريمة طالبت بتوقُّفها فورا.
نعم للمعركة.. لا للحرب
في سنة 2019، دخلت دولة الاحتلال الإسرائيلي في مواجهة مع حركة الجهاد الإسلامي، وخلال المعركة لم تتدخَّل حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وظلَّت بعيدة نوعا ما عن المشهد، وهو ما حرص قادة الاحتلال على ضمانه في هذه المواجهة أيضا عبر تجنب قصف أي أهداف تابعة لحماس. وكان دخول الحركة التي تحكُم غزة منذ نحو 15 عاما إلى هذه الجولة لاعبا أساسيا يعني أمرين لا تُحبِّذهما تل أبيب: أولا، إطالة عمر المعركة التي رغب الإسرائيليون بإنهائها في ظرف أيام، وثانيا، تجنُّب استهداف المراكز الحيوية في الداخل الإسرائيلي عن طريق الترسانة الصاروخية لحماس، التي لن تجد صعوبة كبيرة في إحدث شلل تام بعدد من المؤسسات الحيوية في الداخل المحتل.
ربما تكون هذه الحسابات هي التي دفعت دولة الاحتلال إلى إنهاء حربها مبكرا نسبيا قبل أن تخرج المواجهات عن السيطرة، مُستجيبة بسرعة لجهود الوساطة، ربما أكثر من الفلسطينيين أنفسهم الذين عادة ما يكونون أكثر تجاوبا مع هذه الجهود بسبب الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي تُسبِّبها آلة البطش الإسرائيلية. في النهاية، دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وتجنَّبت غزة حربا واسعة أخرى، وخرجت حكومة الاحتلال لتَدَّعي نصرها المزعوم. بيد أن القطاع المحاصر يظل بؤرة لصراع متجدد بين الاحتلال والمقاومة، وهو صراع تخشى إسرائيل أن جولته القادمة لن تقتصر على غزة فقط، لكن لهيبها سيمتد إلى الضفة وربما إلى مناطق 48 كما حدث بشكل محدود في مواجهة العام الماضي.