وداعاً لـ «السرفيس»… وأهلا بـ «المشي»
كتبت يمنى المقداد في الديار:
من «السيارة الخاصة» إلى «السرفيس» إلى «الفان» إلى «التوك توك» إلى الأقدام… هكذا تدحرج مسار التنقل في لبنان إثر ارتفاع أسعار المحروقات وكلفة المعيشة عموما.
مؤخرا رفع السائقون العموميون ضمن منطقة بيروت وضواحيها، تعرفة «السرفيس» إلى 50 ألف ليرة، لترتفع بموازاتها تلقائيا تعرفة «الڤان»، على أنّ هذا الإرتفاع يشمل بطبيعة الحال التعرفة خارج بيروت وصولا إلى الأطراف لمختلف وسائل النقل.
إرتفاع التعرفة إلى هذه القيمة، ضيّق الخيارات أمام الموظف للوصول إلى عمله بسبب راتبه الزهيد الذي يتقاضاه بالليرة اللبنانية، وكذلك من يضطر الى ركوب سيارة الأجرة، لأنّ «الڤان» ليس متوافرا بالقرب من مكان سكنه أو عمله، كما أنّ الأمر يصعب بأشواط على من يسكن في منطقة بعيدة عن عمله.
وفي ظلّ هذه التطوّرات أصبح المشي الخيار الوحيد لمن يعمل «عن قرب»، وتقليص أيّام العمل لمن يمكن أن يعمل «عن بُعد».
بدل النقل الجديد غير كاف
ياسمين (23 عاما) من سكان الجنوب، موظفة في مؤسسة خاصة في بيروت، تتقاضى 3 ملايين و500 ألف ليرة شهريا، تتردّد يوميا إلى العاصمة، تقول لـ «الديار» إنّ ما يخفّف عنها في هذا الوضع هو أنّها تنتقل إلى عملها بسيارة خاصة مع أحد أقربائها، وهذا ما دفعها الى قبول الوظيفة من الأساس، خصوصا أنّ التكلفة اليوميّة ذهابا وإيابا بين بيتها وعملها تبلغ أكثر من 90 ألف ليرة، بالمقابل عبّرت ياسمين عن شعورها بالإحراج الشديد من قريبها وبأنّها عبء عليه، لاعتبارها أنّها تقيّده، لكنّها مضطرة الى ذلك على حدّ تعبيرها.
أما عن زيادة بدل النقل إلى 95 ألف ليرة، فترى أنّها غير كافية لمن يقصد بيروت من الجنوب أو البقاع، وحتى الزيادة الأخيرة على الحد الأدنى للأجور» رح يحطوها كلّها أجار طريق».
الزيادة «بنج»
نادين ( 34عاما)، من سكان ضواحي بيروت، مسؤولة قسم في مؤسسة في القطاع الخاص تبعد نحو نصف ساعة من مكان سكنها، تعتبر في حديثها لـ «الديار» أنّ الرواتب كانت سابقا جيدة جدا، تؤمّن العيش بمستوى متوسط، وكذلك بدل النقل ذهابا وإيابا من وإلى العمل، فيما لم تعد كذلك اليوم.
وتابعت أنّ مكان المؤسسة التي تعمل فيها يبعد من 20 إلى 25 دقيقة سيرا على الأقدام، ولكن صحتها تمنعها أحيانا من الذهاب سيرا، ولكن اليوم يطلب السائقون مبلغ 50 ألف ليرة كتعرفة، ما اضطرها إلى أن تستقلّ «الڤان» إلى منطقة قريبة من عملها وأن تكمل سيرا على الأقدام، وأردفت أنّ هذا الأمر يسبب لها أزمة كبيرة في الشتاء.
وتشير نادين الى أنّ أكثر ما يزعجها هو أنّها تعلمت كي تستطيع العيش بكرامة في هذا البلد، لكنّها اليوم تشعر بالإحراج الشديد عندما تشترط على السائق أن تدفع له تسعيرة «الڤان» نفسها، وتشعر بالاحراج حين يرمقها السائق بنظرة ساخرة أو شفقة، « وهذا يضايقني كثيرا على الصعيد النفسي».
وتختم: « معاشاتنا لا تزال باللبناني وعم يكون نصفها بدل نقل.. صح الدولة عم تزيد، بس هيدا عبارة عن بنج حتى نضل مكملين، وما تم إقرار جزء من الرواتب بالدولار».
«شغلين وثلاثة»
فرح (موظفة 30 عاما) تسكن في منطقة النبطية، تقول لـ «الديار» إنّ راتبها كان يبلغ مليون ليرة وأصبح مليونين و600 ألف ليرة ، ولكنه لا يزال غير كاف في ظل أزمة الدولار وزيادة الأسعار، كما تمّت زيادة بدل النقل إلى 95 ألف ليرة فيما يكلّفها -حتى الآن- أكثر من 200 ألف ليرة يوميا قابل للزيادة، مضيفة:»هناك أيّام كنت مرتبطة مع سائق كان يعطيني سعر خاص بين 140 و 160 ألف ليرة في اليوم، ولكن عندما لا يذهب إلى بيروت أدفع بين 250 و300 ألف ليرة يوميا، وأعرف أشخاصا يدفعون نحو 350 ألف ليرة يوميا».
نتيجة هذا الواقع، قرّرت فرح الإستقالة من عملها، ولكنها عدلت عن الفكرة واختارت العمل «أون لاين» لعدّة أيام والحضور ليومين فقط، وكانت إدارة العمل متعاونة جدا معها، إلّا أنّها تضطر الى البقاء في بيروت خلال يومي الدوام لتسييرأمور العمل بظروف غير مريحة نسبيا، كما بحثت فرح عن عمل ثان «أون لاين» ودوام جزئي كي تستطيع الصمود في هذا الوضع.
وختمت:» راتب لحتى اطلع وانزل… وراتب لحتى غطي مصاريفي وساهم بمصروف البيت مع أهلي، وحتى الشغل الثاني بطّل يعمل شي، لأن الأسعار عم تطلع نار بوقت الراتب ثابت … الواحد صار بدو شغلين وثلاثة ليقدر يغطي المصاريف الأساسية، وكلو على حساب طاقتو وصحتو وأعصابو وحياتو كلّها».
«سكوتر»
محمد (39 عاما) موظف في شركة خاصة، يسكن في منطقة الحمراء، ومكان عمله في منطقة سنّ الفيل، كان عادة يذهب إلى عمله بسيارته الخاصة أو بسيارة أجرة، كما أنّ طبيعة عمله تضطره الى التنقل إلى مناطق أخرى أثناء الدوام ولا تغطّي المؤسسة هذه التكاليف.
اليوم لم يعد محمد يستطيع أن يستقّل سيارته الخاصة ولا «السرفيس» بسبب غلاء البنزين ورفع التعرفة، فقام بشراء «سكوتر» مستعملة أو ما يصطلح على تسميته «موتسيك عالكهربا» بمبلغ ٤٠٠ دولار، تحتاج الى 3 ساعات تشريج لتسير لاستخدام حوالى 5 ساعات يوميا، كما يستخدمها لشراء حاجيات منزله وإيصال إبنه إلى الحضانة وزوجته إلى العمل.
لن أكون مجحفة بحق نفسي
لأجل 50 ألف ليرة
رفا (38 سنة موظفة) تقطن منطقة حارة حريك، يبعد مكان عملها عن منزلها نحو نصف ساعة، اعتادت أن تقصد عملها بسيارة أجرة، تصف لـ «الديار» بأنّ الأمور كانت سهلة جدا سابقا، لكن اليوم أصبح الوضع أصعب بكثير بسبب رفع تعرفة النقل، إلا أنّها رغم ذلك تستقل سيارة أجرة حين تكون مضطرة، وأشارت إلى أنّ التعرفة كانت مقبولة حين كانت ما بين 25 و 30 ألف ليرة قبل أن يرفعها بعض السائقين من تلقاء أنفسهم إلى 40 و 50 ألف ليرة وتسببوا لنا بهذا الوضع، وقالت: «هني شعب ونحنا شعب لازم نساند بعضنا… الأزمة علينا وعليهم».
رفا أكملت أنّها إذا أرادت الذهاب إلى عملها بـ «السرفيس» يوميا ستدفع ما بين مليون ومليون ونصف شهريا وربّما أكثر، لذلك قرّرت الذهاب والعودة مشيا، وهي بحاجة من ربع إلى ثلث ساعة فقط، لافتة إلى أنّ قرارها هذا دائم، وأردفت:» أحيانا أصل الى عملي وطاقتي منهكة من الحرّ، ولكن لا تزال الحرارة مقبولة، وطبعا لن أكون مجحفة بحق نفسي لأجل 40 أو 50 ألف ليرة، وربّما أستقل سيارة الأجرة في تموز وآب حين لن أستطيع المشي»، مشيرة إلى أنّ بدل النقل الذي رفعه الوزير «بيفرج» بمكان معين، لكن أصل الحدّ الأدنى للأجور لا يزال متدنيا.
تقليص أيّام العمل والبحث عن آخر
مصطفى ( 32 عاما ) من سكان المروانية- الجنوب، يعمل في بيروت، كان سابقا يتنقّل بسيّارته الخاصة إلى عمله بكلفة 15 ألف ليرة بنزين ذهابا وإيابا، فيما اليوم تكلف العملية نحو 600 ألف ليرة وأكثر.
لا يزال مصطفى يتنقل بالسيّارة، لكنّه قلّص أيّام عمله الحضورية من 6 إلى 3 أيّام، ومع إرتفاع سعر البنزين يوميا يفكّر جدّيا في أن يستقّل «الڤان»، لكنّه يعتبر أن ركوب السيارة الخاصة أريح جسديا وأفضل من المذلة على الطرقات على حد تعبيره، لافتا إلى أنّه حتى «الڤانات» لا تتوافر في كلّ الأحيان، خصوصا في القرى البعيدة.
مصطفى يبحث اليوم عن عمل يكون قريبا من مكان سكنه، لتخفيف أعباء التنقل من جهة، ولأنّ راتبه لم يعد يكفيه خصوصا بعدما قلّص أيّام عمله الحضوريّة.
100 ألف ليرة يوميا
غنى ( 25 عاما)، موظفة براتب 3 مليون ونصف ليرة، تقطن في منطقة برج البراجنة، يقع عملها في منطقة بئر حسن، تستقل سيارة الأجرة للوصول إلى العمل والعودة منه، بكلفة 100 ألف ليرة يوميا ذهابا وإيابا، وأحيانا تستقل دراجة نارية مع أحد أفراد أسرتها كبديل عن سيارة الأجرة وكلفتها الباهظة التي تبلغ تقريبا نصف راتبها.
ترى غنى أنّ هذه الكلفة ينتج منها عبء مادي على الموظف، ما يدفعه إلى الاستغناء عن الكثير من الإحتياجات الحياتية، النفسيّة والماديّة، إلى جانب الاستغناء عن الطموح وتطوير الذات وإلغاء مشاريع كان قد خُطّط لها سابقا، بهذا الراتب القليل الذي لا يكاد يكفي لتأمين مأكل وملبس وبدل نقل، وهذا الأمر دفع غنى مرات عديدة إلى التفكير بترك العمل ، ولكنها عدلت عن الفكرة بغية الإستفادة من المبلغ الزهيد الذي يبقى لتغطية مصروفها اليومي وحاجاتها الأساسية.
خلاصة القول… تقول التجربة إنّ اللبناني مرن، ويستطيع التكيّف مع الأزمات، وها هو اليوم يفعل ذلك على مستوى التنقّل باحثا عن البدائل، ولكن لأنّ الفوضى تضرب لبنان على كلّ الصعد، تتحوّل هذه المرونة إلى استنزاف يهدّد الإنسان والإنسانيّة معا.