“من الألف الى الياء”… الالتزام بشروط “الصندوق”.. وإلّا الكارثة!
بالترحيب الدولي، والأميركي على وجه التحديد، والتنويه بعمل “فريق رئاسة الحكومة”، يكون رئيس الحكومة نجيب ميقاتي قد خطا خطوة جديّة على طريق فتح أبواب التعاون الدولي مع حكومته الحالية.. والمستقبلية بعد الانتخابات. إذ إنّ الوقوع في الفراغ ممنوع، ووضع البلد لا يحتمل. وفي الحرب الصامتة بين الرئاستين الأولى والثالثة سجلّ ميقاتي هدفاً. والعين على مجلس الوزراء في ما تبقّى له من جلسات.
لن يكون سهلاً على الحكومة تنفيذ ما تعهّدت بشأنه لصندوق النقد الدولي. فكلّ بند من البنود المنصوص عليها سيكون موضع خلاف وسجال سياسي بأبعاد انتخابية، سواء في الحكومة أو داخل مجلس النواب. إنّه الامتحان الصعب للسلطتين التنفيذية والتشريعية، فإمّا إقرار القوانين والتشريعات المتعلّقة بهذه البنود، وإمّا لا اتفاق مع صندوق النقد، وسيتحمّل لبنان واللبنانيون التداعيات الكارثية.
قبيل التوقيع وخلال مرحلة المفاوضات مورست ضغوط كبيرة على المسؤولين للالتزام بما سيتمّ الاتفاق بشأنه تحسّباً لأيّ مماطلة أو تأخير. أصرّ مندوبو الصندوق على الحصول على تعهّد لبناني رسمي بهذا الشأن، خصوصاً أنّهم خرجوا من زيارتهم الأولى للبنان على وعدٍ بإجراء اللازم، ثمّ وجدوا أنّ الأوضاع ازدادت سوءاً، فيما لم تقُم الحكومة ولا البرلمان بأيّ خطوات من أجل معالجة جوهرية. أمّا في جولته الثانية فكان وفد صندوق النقد واضحاً، وطالب الرؤساء الثلاثة ووزير المال وحاكم مصرف لبنان بالتوقيع على تعهّد خطّي بتطبيق بنود الاتفاق بعد إتمامه.
شروط صعبة
تشترط “مسوّدة” الاتفاق المبدئي، الذي سيُعرض على الإدارة المركزية في صندوق النقد للموافقة عليه، على الحكومة اللبنانية سلسلة خطوات إصلاحية ماليّة، أهمّها تعديلات على السرّيّة المصرفية، وهيكلة المصارف الكبيرة، وإقرار قانون الكابيتول كونترول، وتعديل قانون النقد والتسليف، وهي شروط صعبة. وكي يُعالَج الإفلاس فالمطلوب من لبنان أن يُجري جراحات حيّة في الجسم المالي قد لا تنتهي قبل الانتخابات النيابية.
بعدما اُستُخدم “فزّاعةً” هدفها النيل من مؤسسات الدولة وفرض شروط تعجيزية على لبنان، بدا صندوق النقد “ملكيّاً أكثر من الملك”، من ناحية الإجراءات التي طالب باتّخاذها والتي هي خطوات معروفة. لكنّ الدولة بدت على امتداد عمر الأزمة أعجز من إقرارها بسبب المناكفات السياسية بين رئاسة الجمهورية والسلطتين التنفيذية والتشريعية.
بعين الرضى تعاطى خبراء الاقتصاد مع شروط صندوق النقد، وثمّنوا ما ورد في “اتفاق الموظفين”، لناحية كبار المودعين، من سياسيين وغير سياسيين، وطالبوا بحلّ قضيّتهم من خلال حلّ أزمة المصارف، مقابل حماية صغار المودعين من أصحاب الحسابات ما دون مئة ألف دولار، والتعاطي بإيجابية مع القطاع العامّ. إذ بعدما كان الحديث عن تقليصه، صار يُعوَّل عليه بعد تراجع كلفته، ولأنّه الوسيلة الوحيدة لتحقيق السياسات المقبلة، نظراً إلى ضعف القطاع الخاص المرتبط والمرتكز أساساً على المصارف، وإلى عدم الثقة بعودة الرساميل في الوقت الراهن. وبموجب الاتفاق المبدئي وبنوده فإنّ مصرف لبنان لم يعد حاكماً مطلق الصلاحيّات بعد تعديل قانون النقد والتسليف وهيكلة المصارف، إذ صارت المصارف في وضعيّة إفلاس فعليّ وما تبقّى هو حسابات دفترية.
مصادر رئاسة الحكومة
سيُستتبَع حكماً الاتفاق الذي وُقِّع على مستوى موظّفين بمرحلة ثانية ريثما تنطلق الخطوات التنفيذية. أوضحت مصادر رئاسة الحكومة لـ”أساس” أنّ “إقرار الاتفاق المبدئي تلزمه موافقة أعضاء مجلس إدارة الصندوق. والموظفون التقنيون الذين وقّعوا الاتفاق لا يمكن لهم إنجاز الخطوة الثانية، أي تقديمه إلى مجلس الإدارة، ما لم يتمّ تنفيذ الشروط المسبقة التي تتعلّق بأربعة قوانين يجب أن يصدرها مجلس النواب، وهي قانون الموازنة للعام 2022، الكابيتول كونترول، قانون تعديل بعض بنود قانون السرّية المصرفية، وقانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، والتدقيق المالي (وليس الجنائي) بماليّة مصرف لبنان”. وأضافت مصادر السراي: “إذا كان الصندوق لم يُلزمنا بمهلة زمنية محددة، إلا أنّ مصلحة لبنان تقتضي إنجاز المطلوب اليوم قبل الغد وإلّا استنزف كامل احتياطه”.
وفي حديثها عن الآليّة التطبيقية للاتفاق، قالت المصادر إنّ “المسؤولية تتوزّع بين مجلسَيْ الوزراء والنواب، كلٌّ منهما ضمن صلاحياته. فيتولّى مجلس الوزراء إقرار تعديل قانون السرّية المصرفية وقانون يتعلّق بتعديل هيكلة المصارف ويحيلهما إلى مجلس النواب، أمّا القانونان الآخران فباتا في مجلس النواب، وهما الكابيتول كونترول والموازنة لإقرارهما قبل الانتخابات النيابية التي تتحوّل الحكومة بعدها إلى حكومة تصريف أعمال”.
وكشفت المصادر الرئاسية أنّ “الحكومة أنجزت القانونين -هيكلة المصارف.السرية المصرفية- المطلوبين منها وستحيلهما قريباً إلى مجلس النواب. أمّا توحيد سعر الصرف فلا يلزمه مجلس نواب، بل يتمّ بالاتفاق بين الحكومة وحاكم مصرف لبنان، فيما التدقيق في ماليّة مصرف لبنان قد بدأ العمل عليه”.
وشرحت المصادر كيف أنّ جوهر الاتفاق “يتعلّق بخطة التعافي التي قدّمتها الحكومة اللبنانية والمرتكزة على خمسة محاور:
– السياسة النقدية وتوحيد سعر الصرف، وهي متّصلة بمصرف لبنان.
– الماليّة العامّة للدولة.
– هيكلة المصارف وحقوق المودعين.
– الإصلاحات الهيكلية التي تتعلّق بالقطاعات المتهالكة، وأوّلها قطاع الكهرباء، وإعادة تفعيل القطاع العام والمؤسسات والهيئات والصناديق التابعة للدولة اللبنانية ودورها وآليّة تفعيلها.
– موضوع الحوكمة المتعلّق بموضوع الفساد والشفافيّة وتبييض الأموال.
تثبيت سعر الصرف
في الشقّ المتعلّق بتثبيت سعر صرف الدولار، شرحت مصادر رئاسة الحكومة أنّ المطلوب “ليس تثبيت سعر الصرف على سعر واحد محدّد، وقد دفع لبنان ثمن تثبيته باهظاً، بل إيجاد هامش يتحرّك ضمنه”، من دون أن تستبعد إمكانية أن يكون التثبيت انطلاقاً من سعر منصّة صيرفة.
أمّا الأبعاد المالية والسياسية لمسوّدة الاتفاق فهي “تمنح صدقية للبنان تسمح له بإعادة الثقة والاستثمار في القطاع الخاص، وعودة مؤتمر سيدر إلى حيّز البحث، وعقد مؤتمر للدول المانحة، ومنح تسهيلات ماليّة للبنان”.
وعمّا إذا كان يندرج في سياق الإصلاحات المطلوبة بتّ مصير حاكم مصرف لبنان ودوره، فأكّدت مصادر رئاسة الحكومة أنّ “الحاجة ملحّة إلى تعديل قانون النقد والتسليف الذي وُضع قبل ستّين عاماً، وهو ما سنعمل عليه، وما يهمّنا هو المؤسّسات بغضّ النظر عن الأشخاص”.
ربّما تكون هذه النقطة الأخيرة موضع خلاف داخلي كبير لوجود تباين بين الرئاستين الأولى والثانية حول مصير حاكم مصرف لبنان. فالأولى تعتبر أنّ أيّ إصلاح بوجوده غير ممكن بسبب وجود دعاوى قضائية بحقّه في أكثر من دولة، بينما يتقاعس القضاء اللبناني عن بتّ أمره، أمّا لدى الثانية فيتجاوز البحث الأشخاص إلى إصلاح المؤسسات.
هناك نقطة ثانية ستكون موضع شكّ، وهي الثمن الذي يُفترض أن يدفعه لبنان مقابل العودة إلى مؤتمر سيدر ومؤتمر دولي لمساعدة لبنان.
حتّى المسوّدة التي وُقِّعت كانت جهات رسمية تشكّ في كونها “اتّفاق موظّفين” قد لا تلتزم به إدارة الصندوق، وتصرّ على أنّ العبرة تبقى في التزام الحكومة ومجلس النواب والقيام بدورهما.
لكنّ توقيع المسوّدة لم يكن إلا خطوة على طريق الألف ميل، ذلك أنّ الأصعب هو توافر الإرادة المحليّة والتوافق السياسي على مستقبل لبنان المالي والاقتصادي الذي قد يكون الشكّ فيه مصيباً على أبواب الانتخابات النيابية ومع اقتراب نهاية العهد.
أساس ميديا