الحرب على أوكرانيا تعود بطوابير المحروقات إلى لبنان وتزيد ساعات العتمة
يتخذ تأثر لبنان بالغزو الروسي لأوكرانيا مناحٍ أكثر حدة ووضوحاً، حيث يضاعف معاناة اللبنانيين من تداعيات أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخهم، ويضيف إليهم أعباء أزمة عالمية لم تكن البلاد، المنهارة مالياً، على استعداد لتحمل نتائجها.
ويشهد لبنان حالة خوف وترقب عامة لما ستؤول إليه الأوضاع في الحرب على أوكرانيا، وذلك بعد أن عادت بهم في الأيام الماضية إلى مراحل مضت من ذروة الأزمة، تكررت معها مشاهد طوابير السيارات المصطفة أمام المحطات للحصول على المحروقات، وعادت الأسواق السوداء للوقود للظهور من جديد ونشطت عمليات الاحتكار والتخزين بالإضافة إلى الانقطاع.
وكانت أسواق السلع الغذائية وموادها الرئيسية كالقمح والحبوب والزيت، من أول القطاعات المتأثرة في لبنان بالحرب الروسية على أوكرانيا، حيث تبحث السلطات اللبنانية عن مصادر للقمح والحبوب والزيت بديلة عن أوكرانيا بعد أن كانت تتكل عليها في إمداداتها، وذلك قبل الوصول إلى سيناريو يهدد الأمن الغذائي وتوفر رغيف الخبز في البلاد.
وعلى غرار الوضع العالمي، لحق قطاع النفط والطاقة بالقطاع الغذائي في لبنان، ومع ارتفاع أسعار المحروقات عالمياً، وتأثر امداداتها بالاجتياح الروسي والعقوبات، عاش اللبنانيون أسبوعاً من الهلع بعد انخفاض كميات الوقود المعروضة في الأسواق وارتفاع أسعارها، الأمر الذي انعكس على انتاج الطاقة الكهربائية في البلاد، ورفع من تكلفتها وفواتيرها، بالإضافة إلى أنه زاد من ساعات التقنين الكهربائي التي باتت تقتصر على نحو 5 ساعات تغذية من أصل 24 في بعض المناطق.
لا سقف للأسعار
يشرح عضو نقابة أصحاب محطات المحروقات في لبنان جورج البراكس، أن موقع لبنان على حوض البحر المتوسط وحدود أوروبا الجنوبية، أدى إلى اعتماده على النفط القادم من البحر الأسود إلى حوض المتوسط، ومعظم هذا النفط مصدره روسيا، لذلك يعيش اليوم تأثيرات هذه الحرب وانعكاساتها العالمية، لاسيما وان روسيا هي ثاني أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم.
وارتفعت أسعار برميل النفط حول العالم متجاوزة عتبة الـ 130دولاراً، مسجلاً 132 دولاراً اليوم، مقارنةً بنحو 97 دولاراً قبل الغزو الروسي، وهو ما انعكس على أسعار المحروقات في لبنان التي يتم تسعيرها بناء على السعر العالمي للنفط بالإضافة إلى سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية.
وللمرة الرابعة في أسبوع واحد، أصدرت وزارة الطاقة اللبنانية اليوم جدولاً جديداً لأسعار المحروقات، يحمل ارتفاعاً في أسعارها، حيث بلغ سعر صفيحة (٢٠ ليتر) بنزين 98 اوكتان: 450 ألف ليرة لبنانية، بنزين 95 اوكتان: 441 ألف، بينما بلغ سعر الديزل أويل (المازوت): 460 ألف ليرة، أي ما يقارب الـ21 دولاراً، في حين أن الحد الأدنى للأجور لا يزال ٦٧٥ ألف ليرة في لبنان، تساوي اليوم نحو 30$، أي أن راتب لموظف بالحد الأدنى للأجور لا يمكن أن يكفي لشراء صفيحتي محروقات للتنقل او للتدفئة، وهو ما ينعكس ارتفاعاً في أسعار كافة السلع في لبنان.
في المقابل أيضاً ارتفع اليوم سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية ملامساً الـ 24 ألف ليرة للدولار الواحد، بعد استقرار دام لأسابيع عدة عند عتبة الـ 20 ألفاً، نتيجة تدخل مصرف لبنان وضخه للدولارات في السوق بهدف تثبيت السعر.
وعليه يمكن القول إنه في ظل عدم وجود سقف ثابت لسعر النفط عالمياً، وعدم استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، لم يعد هناك اليوم سقف لأسعار المحروقات في لبنان التي باتت ترتبط مباشرة بالسوق العالمية ومتغيراتها، لاسيما وان الدولة اللبنانية لا تملك مخزونا استراتيجيا من الوقود لتزود الأسواق المحلية ولم تعد تدعم استيراد المحروقات لتتحكم بسعرها.
أزمة إمدادات
وكان الاتحاد البترولي اللبناني قد أعلن في بيان أن “الحرب الدائرة في أوكرانيا وانعكاسها على أسعار النفط عالميا، أثرت على حركة وصول البواخر المحملة بالمشتقات النفطية، وجزء كبير منها سيصل عبر البحر الأسود ومن مناطق النزاع الدولي.”
يؤكد البراكس في حديثه مع موقع “الحرة” أن المشكلة لا تكمن فقط في الأسعار، وإنما في توفر المحروقات عالمياً، حيث تطرأ اليوم أيضا أزمة إمدادات وعدم توفر كميات كافة من المحروقات في الأسواق العالمية، “إذ لا يجب ان ننسى أن 40% من حاجة أوروبا للغاز مصدره روسيا كذلك 30% من محروقاتها، وبالتالي هذه الدول، في حال قررت مقاطعة النفط الروسي، ستلجأ للبحث عن مصدر آخر للنفط في الوقت نفسه، ما يرفع الطلب على مصادر المحروقات والنفط عالمياً، ويؤثر على توفرها واسعارها، أضف إلى ذلك ان كل الدول القادرة على تكوين احتياطات استراتيجية تسعى لذلك الآن تجنباً لاستخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لسلاح النفط في وجه الدول الغربية والتأثير على امداداتها، لذلك اليوم يجري امتصاص كل ما يتوفر من محروقات في الاسواق.”
وكان قد أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، حظراً على استيراد النفط والغاز الروسيَّين، في كلمة له مساء أمس الثلاثاء، أكّد فيها أنَّ “كلَّ واردات النفط الروسي لن تُقبَل في الموانئ الأميركية، بدءاً من اليوم”. وأضاف “علينا أن نكون مستقلّين في مجال الطاقة، وبحثت مع حلفائنا ضرورة أن يفكّوا ارتباطهم بالطاقة الروسية”.
وأشار بايدن إلى أن القرار “سيؤلم الروس، وسيُلحق الضرر بنا أيضاً”. متابعاً “سأفعل كلَّ شيءٍ من أجل التصدّي لارتفاع أسعار الوقود في الولايات المتحدة”، مشدداً على أنّه “ليس على شركات النفط استغلال المستهلكين الأميركيين، وليس هذا الوقت الملائم للتربّح”.
من جهته أعلن وزير الأعمال والطاقة البريطاني كواسي كوارتنغ أمس الثلاثاء أن المملكة المتحدة ستوقف واردات النفط الخام والمنتجات البترولية الروسية بحلول نهاية العام 2022 ردا على الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
وعلى الرغم من ذلك، يطمئن عضو نقابة أصحاب محطات الوقود، إلى أن لبنان “لن ينقطع من المحروقات في المدى المنظور، لكونه لا يزال قادرا على تأمين احتياجاته، رغم عدم وجود مخزون احتياطي كبير، إلا أن حاجات البلاد لا تزال تحت السيطرة ويجري تأمينها.”
حالة هلع تعود بالطوابير
السبب الرئيسي بعودة طوابير السيارات إلى أمام المحطات، هو حالة الهلع التي يعيشها المواطن اللبناني، بسبب ارتفاع الأسعار الحاصل والمتوقع في الفترة المقبلة، بحسب ما يشرح البراكس، ما دفع الناس لمحاولة الاستفادة من المخزون المتبقي بالأسعار القديمة من أجل التوفير.
أما السبب الثاني للخوف بحسب البراكس، فيتمثل بما عاشه اللبناني خلال العامين الماضيين من انقطاع المواد الأساسية ولاسيما المحروقات والكهرباء والمياه والخدمات، “كل هذه الأزمات لم تخرج من ذاكرة اللبنانيين بعد ولا يزالون يعانون منها بوتيرة مستمرة، وبالتالي من الطبيعي ان تتفاعل الناس مع الأحداث العالمية بهذا الرعب.”
الواقع القائم أدى إلى ضغط كبير على محطات المحروقات، وتركز في نهاية الأسبوع الماضي، حيث تزامن ذلك مع اقفال شركات استيراد المحروقات لأبوابها وتوقفها عن تسليم المواد، في حين ان مخزون المحطات لم يكن يكفي لهذا الحجم من الضغط الذي لم يكن بالحسبان، وبعض المحطات نفذ مخزونها يوم السبت وأقفلت أبوابها يوم الأحد، ما زاد من خوف الناس واقبالها على الحصول على البنزين، وفق البراكس.
ويضيف “لاحظنا ان أكثر من ٥٠٪ من السيارات التي توقفت على المحطات نهاية الأسبوع الماضي كانت خزاناتها شبه ممتلئة، ولكنها تسعى للحصول على مزيد من المخزون، وهذا يشير إلى ترقب وخوف وليس انقطاعاً من المحروقات.”
يوم الاثنين أيضاً، شركات توزيع المحروقات وزعت كميات قليلة على الأسواق بسبب تأخر اتفاقها مع وزير الطاقة على تعديل الأسعار لتتناسب مع الارتفاع العالمي. فيما يشير البراكس إلى أن التوزيع كان أفضل أمس الثلاثاء، بعد صدور جدول أسعار جديد، “لاحظنا تراجعاً في حجم الطوابير المتوقفة أمام المحطات، ونتأمل اليوم ان نبدأ بالعودة إلى المشهد الطبيعي”.
وحول وجود عمليات احتكار وتخزين، يؤكد البراكس وجود هذه الحالات من أجل تحقيق أرباح من الأزمة، ويلفت إلى أن المواطنين أنفسهم أيضاً باتوا يخزنون براميل او عبوات في منازلهم لتجنب الانقطاع، “ولكن اليوم ما عاد لأحد القدرة على التخزين بكميات كبيرة، بسبب الارتفاع الكبير بالأسعار، حيث بات سعر الصهريج الواحد من المحروقات بحدود النصف مليار ليرة، قد يكون هناك ١٠ محطات او ٢٠ من أصل ٤٠٠٠ محطة في لبنان تخزن مثلاً تبقى تلك الحالات فردية وبكميات قليلة جداً.”
زيادة في التكلفة والعتمة
الشح في توفر مادة المازوت في الأسواق، وتحول بيعها إلى الأسواق السوداء حيث ترتفع الأسعار أكثر، دفع بأصحاب المولدات الخاصة إلى زيادة ساعات التقنين التي يعتمدونها لتصل في بعض المناطق إلى نحو ٥ ساعات يومياً فقط، علماً أن شركة كهرباء لبنان ما عادت تؤمن أكثر من ثلاث ساعات من التغذية الكهربائية في اليوم.
كذلك زاد من قيمة الفاتورة الشهرية للمولدات الكهربائية، والتي باتت تكوي جيوب اللبنانيين بعد وصولها إلى مستويات قياسية، دفعت بالكثرين إلى التخلي عن اشتراكهم الكهربائي مع المولدات والاكتفاء بساعات التغذية التي تؤمنها شركة كهرباء لبنان.
وفي هذا السياق يؤكد نقيب أصحاب المولدات الكهربائية الخاصة، عبدو سعادة، في حديث لموقع “الحرة”، أنه وفي ظل ارتفاع أسعار النفط عالمياً، وانعكاسها في لبنان على سعر صفيحة المازوت، فإن تسعيرة المولدات الخاصة سترتفع بعد أكثر في الفترة المقبلة. مذكراً ان أصحاب المولدات ليسوا المسؤولين عن وضع التسعيرة وإنما وزارة الطاقة التي تصدر جدولا بالأسعار بشكل دوري وتأخذ بعين الاعتبار أسعار المحروقات من جهة وسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية من جهة أخرى.
وحول زيادة ساعات التقنين يشير سعادة إلى أن أصحاب المولدات عانوا طيلة الأسبوع الماضي من انقطاع مادة المازوت في الأسواق، “وإن وجدنا فإننا نحصل عليه بكميات قليلة جداً لا تسمح لصاحب المولد أن يوفر مخزونا يكفيه لمدة طويلة يستطيع من خلالها تأمين ساعات تغذية مرتفعة وثابتة، وعليه فإن كل صاحب مولد يعمل وفق ما يتوفر لديه من مادة المازوت، وما من جهة مسؤولة في الدولة اللبنانية تعمل على تأمين المحروقات لأصحاب المولدات على اعتبار انه قطاع استراتيجي في البلاد على غرار غيره من القطاعات.”
ويلفت سعادة إلى أن الحرب في أوكرانيا أثرت على واقع لبنان بشكل كبير، وستؤثر بعد أكثر بطريقة سلبية جداً إن لم تجد السلطات اللبنانية حلاً مستداماً لهذا الأمر. “بالأمس بلغ سعر طن المازوت في السوق ١٢٥٠ دولاراً أميركياً بعد أن كان يبلغ ٨٠٠ دولار.”
“نحتاج قراراً جريئا من وزير الطاقة او رئيس الحكومة ان يتجهوا إلى تسعير المازوت بالليرة اللبنانية مع دعم حكومي”، وفق سعادة، وإلا لن تستطيع الناس الحصول على الكهرباء بعد مدة وجيزة، وستطفئ المولدات في نهاية الأمر إما لعدم توفر مادة المازوت أو بسبب ارتفاع أسعارها التي لن يقوى المواطن اللبناني على تكلفتها. وهناك مناطق وقرى بالفعل بدأ فيها أصحاب المولدات بإطفائها نهائياً.
ويلفت إلى أن التقنين يهدف أيضاً لتخفيف الأعباء عن الناس إذ أن معظم المواطنين ما عادوا قادرين على دفع فواتير الكهرباء، وبالتالي من شأن زيادة ساعات التغذية ان يضاعف الفاتورة الكهربائية مضيفا أعباء مادية على المواطن وصاحب المولد على حد سواء “خاصة مع انخفاض مستمر في نسبة الجباية، أضف إلى ذلك ان الغياب التام لتغذية شركة كهرباء لبنان ما يضاعف الضغط على المولدات الخاصة ويتركها وحيدة في مهمة تأمين الطاقة الكهربائية للبلاد.”
المطلوب: مخزون استراتيجي
وفي تعليقه على الأزمة المستجدة، أعلن ممثل موزعي المحروقات فادي أبو شقرا ألّا مخزون من المحروقات في لبنان، مؤكداً أن “من مسؤولية الدولة تأمين احتياط نفطي بالدرجة الأولى”، مشيراً إلى أن عدد البواخر التي تستوردها الشركات اليوم محدود في ظل الأزمة العالمية.
وفي هذا الإطار يلفت البراكس إلى أن ضرورة إقامة خلية أزمة لتأمين حد أدنى من احتياطي نفطي في لبنان، وان يدعم مصرف لبنان منشآت النفط الحكومية، لاستيراد كميات معينة من الوقود وتخزينها فيها، “فهذه المنشآت كانت توزع ما بين 30% و35% من حاجة السوق لوقود، وتوقفت فجأة عن التسليم بسبب عدم توفر اعتمادات كافية للاستيراد، وهذا ما جعل أزمة المازوت اكبر من ازمة البنزين، على سبيل المثال.
ففي حين ان شركة كهرباء لبنان شبه متوقفة عن الإنتاج، كل البلاد تنتج طاقتها الكهربائية من مادة المازوت عبر المولدات الخاصة، إضافة إلى انه فصل شتاء ويزداد الطلب على المازوت للتدفئة ما زاد الطلب بشكل رهيب.”
لذلك نحتاج قرارا على صعيد السلطة التنفيذية ومصرف لبنان، للوقوف إلى جانب المنشآت النفطية وتأمين اعتمادات استثنائية لاستيراد مادة المازوت وتخزينها في حال تطورت الأمور عالميا، لامتلاك نسبة احتياط تسمح لنا بهامش وقت للعمل على تأمين بدائل وكميات جديدة من السوق العالمية.
ويختم البراكس مشيراً إلى أن “محافظة المواطن على برودة اعصابه، هو أبرز مطلب لتفادي الهلع والخوف والإقبال على التخزين، فيما الشركات الموزعة عادت لتسلم الأسواق بالكميات الكافية، ليس هناك مشكلة في المصادر لتأمين المحروقات وإنما المشكلة مادية تتعلق في القدر على تأمين الدولارات اللازمة للاستيراد، وهذا ما يجعل الأزمة في لبنان أكثر حدة من الدول الأخرى، فبينما تواجه الدول مشكلتها المستجدة من صفر، نحن ننطلق من تحت الصفر ومن أزمتنا الخاصة لنشارك العالم في أزمته المستجدة.
المصدر : الحرة