أوكرانيا ولبنان: تقاسم لعنة الجغرافيا والتاريخ
كتب قاسم يوسف في اساس ميديا:
استفاض فلاديمير بوتين في تأكيد نظريّته حول أنّ أوكرانيا، بسهولها وجغرافيّتها ومجتمعها وتكوينها العميق، هي مجرّد اختراع روسيّ ابتكره أجداده، ثمّ قدّموه لأولئك اليتامى الذين كانوا يعتاشون على فتات ما يقدّمه الاتحاد السوفياتي من هبات ومكرمات وأعطيات. وقد هاله أن تصير هذه البلاد اللقيطة ما صارت لاحقاً عليه، وأن ينتفض أهلها، وأن يهرعوا نحو انتزاع استقلاليّتهم وسيادتهم وقرارهم الحرّ، بعد عقود طويلة من الهيمنة الروسيّة الكاملة على كلّ مفاصلهم الحيويّة.
شاء فلاديمير بوتين أن يُجالس نظيره الفرنسي على مسافة مستفزّة تستلزم صراخ الضيف أو اعتماده على مكبّرات الصوت، في صورة مكثّفة تختصر وجهين أساسيّين من وجوه الأزمة المتشعّبة. أزمة قد تبدأ بشخصيّة هذا الرجل النزق، الذي طالما برع في استحضار فوقيّة قصوى تطغى على سلوكه وسيرته وملامحه، ولا تنتهي بذهنيّة التملّك التي تُشكّل المدماك المتجذّر في سياسات الإخضاع الممنهج للدول المجاورة، باعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من روسيا الكبرى. وهو ما يعني أنّه لا يحقّ لأحد، أيّ أحد، أن يجلس إلى طاولة مخصّصة لنقاش أو حوار. ولو قرّر أحدهم أن يُجرّب، لجلس إلى الطاولة نفسها التي أُجلس إليها ايمانويل ماكرون، والتي بدت لشدّة صدمتها ونفورها وفكاهتها، أنّ أوّلها في موسكو وآخرها في باريس.
كان حافظ الأسد من القماشة نفسها. رفض مراراً أن يزور لبنان وهو رئيس دولة وأن يلتقي نظيره في القصر الجمهوري. بل كان يشحن الرئاسات إليه، وغالباً على وجه السرعة، وكأنّهم ولاة يأتمرون بأمره في بلاد لا تعدو كونها محافظة صغيرة تلتحق بأخواتها في ريف دمشق. وقد ظلّ يردّد على الدوام أنّ لبنان هو خطأ تاريخي وجغرافي، وأنّه كان وسيبقى قطعة صغيرة من فسيفساء سوريا الكبرى، لا سفارات معها ولا قناصل ولا تبادل دبلوماسيّاً، بل مجالس هجينة وشخصيّات مرتهنة ونظام أمني وعسكري لا يقلّ وطأة عن أبشع الوصايات والاحتلالات السياسية والعسكرية التي عرفها العالم على الإطلاق. وحين تم التبادل الدبلوماسي بين بيروت ودمشق بعد 50 سنة من استقلال البلدين، بدا هذا الأمر وكأنّه الجانب الفولكلوري من العلاقات.
ما أشبه أوكرانيا اليوم بلبنان في الأمس القريب. نراقب اجتياح مدنها وأزقّتها ونتذكّر معارك الأشرفية وزحلة وحرب التحرير وإرهاصات الجيش السوري وقوات الردع التي كان يأمرها حافظ الأسد وحده دون سواه
بوتين الأسد
في حواره الأخير مع وليد المعلّم، اشتكى رفيق الحريري من دور سوريّ يتجاوز الوصاية إلى خنق الأنفاس. ما كانت دمشق تريد حليفاً، أو صديقاً، أو دولة سويّة في لبنان. بل أرادت خاضعين لسلطانها، ومرتهنين لرغباتها، ومجرّد أدوات يدورون في فلكها ويتحرّكون وفق مصالحها. وكلّ ذلك تمّ تحت أكذب الشعارات بلا منازع. ثمّ حين تتعارض السبل أو تفترق الطرقات. لا يجد النظام بُدّاً من القتل ومن الشطب. فعلوا ذلك مع كمال جنبلاط الذي شاء أن يكون ندّاً وصلباً ورافضاً للتقوقع في سجن حافظ الأسد الكبير. ثمّ فعلوه مع حسن خالد وبشير الجميّل ورينيه معوّض وصولاً إلى رفيق الحريري. وبعض هؤلاء كان على طرفيْ نقيض، لم يجمعهم شيء سوى تطلّعهم القاتل نحو سيادة لبنان واستقلاله.
يستند بوتين إلى دور أوكرانيا المفترض في استهداف روسيا لتبرير اجتياحها. وهذا ما فعله حافظ الأسد تماماً. قبل الحركة الوطنية وبعدها. قبل الجبهة اللبنانية وبعدها. قبل منظمة التحرير وبعدها. لم يكن الرجل بحاجة إلى مبرّرات لاجتياح لبنان وإخضاعه. بل استخدم كلّ متحرّك وكلّ حدث وكلّ تفصيل لتوسيع تدخّله وهيمنته، حتى قيل إنّ اجتياح زحلة تمّ بعد مناشدة وصلته من مخاتيرها. وقد لبّى الرجل الاستغاثة على وجه السرعة، على اعتبار أنّ الشهامة والمروءة والجيرة لا تسمح بخلاف ذلك!
لبنان ليس أوكرانيا
عام 2005، ردّد الأمين العام لحزب الله عبارته الشهيرة: “لبنان ليس أوكرانيا”. لم نكن يومذاك على دراية كافية بالتشابه الهائل بين بلدين شاءت لهما الجغرافيا أن يرقدا في فم الدبّ أو في فم الأسد. وأن يدفعا أغلى الأثمان، ليس انطلاقاً من عداوة يجاهران بها، أو استهدافات يتطلّعان إليها، بل استناداً إلى حقّهما الطبيعي في الحريّة والتحرّر، وإلى حقّهما الطبيعي أيضاً بتقرير مصيرهما، بعيداً عن رغبة الأخ الأكبر، الذي ما عرفاه إلّا وصيّاً أو قاتلاً أو مجنوناً لن يتورّع عن التصفيتة وقصف المدنه ومساواة بيوتهم بالأرض، كلّما سوّلت لأحد منهم نفسه أن يكون على الصورة التي يريد ويشتهي.
ما أشبه أوكرانيا اليوم بلبنان في الأمس القريب. نراقب اجتياح مدنها وأزقّتها ونتذكّر معارك الأشرفية وزحلة وحرب التحرير وإرهاصات الجيش السوري وقوات الردع التي كان يأمرها حافظ الأسد وحده دون سواه. لسنا نعرف أوكرانيا، ولا شعبها، ولا تجمعنا بهم حدود أو علاقة أو مصالح، لكنّنا نقف إلى جانبهم ونتعاطف معهم، لأنّنا نتقاسم معهم لعنة الجغرافيا ولعنة التاريخ، ولأنّنا نعرف روسيا، ونعرف بوتين، وندرك تمام الإدراك أنّ هذه القماشة التي نحفظها عن ظهر قلب لا يُمكن أن تُقدّم للعالم سوى القتل والدم والخراب