فضيحة سلامة الكبرى: انكشاف عقد شركة فوري لنهب الأموال
في التحقيقات الجارية في الدول الأوروبيّة، ولدى القاضي جان طنّوس في لبنانيمثّل عقد شركة فوري الجزء الأكثر دسامة من الاتهامات الموجهة إلى حاكم مصرف لبنان،وتحديدًا اتهامه بالكسب غير المشروع وتبييض الأموال وإساءة استعمال النفوذ.
وبعد طول انتظار سُرب مضمون هذا العقد الشهير، الذي مكّن رياض سلامة وشقيقه رجامن جني أكثر من 325 مليون دولار عمولات من بيع المصارف اللبنانيّة سندات اليوروبوند وسندات الدين بالليرة اللبنانيّة، إضافة إلى شهادات الإيداع الصادرة عن مصرف لبنان.
عقد صغير من ثلاث صفحات، وقعه رياض سلامة بصفته حاكمًا للمصرف المركزي،مع شركة وهميّة مسجلة باسم شقيقه، هو كل ما احتاجه الحاكم لجني هذه العمولات الخياليّة التي حولت إلى أوروبا لاحقًا. مع الإشارة إلى أن توسّع المصارف في التوظيف
في سندات الدين السيادي وشهادات إيداع مصرف لبنان،والتي كانت مصدر العمولات التي استفاد منها سلامة وشقيقه،
تمثّل اليوم أبرز أسباب الانهيار المصرفي الذي أطاح بأموال المودعين بمعنى آخر، كان سلامة يتربّح من تزايد المخاطر التي تحيط بميزانيّات المصارف التجاريّة.العقد المريب
يكفي الاطلاع على نص العقد، الموقّع بتاريخ 6 نيسان2002،ليفهم المرء أن ثمّة ما هو مريب في علاقة المصرف المركزي بهذه الشركة.مقدّمة العقد تنص على أن شركة فوري هي شركة “استشارات ماليّة”،تملك “الخبرة والتكنولوجيا لتقديم الخدمات المصرفيّة”
وهي ترغب لهذه الغاية “بعرض خدماتها على المصرف المركزي”.وهذه العبارات المقتضبة، هي كل ما يعرّف في العقد عن الشركة وخبرتها واختصاصها،ونوعيّة الخدمات التي تقدمها مقابل مئات ملايين الدولارات التي جنيها لاحقًا. أمّا سائر صفحات العقد،
التي لا تتجاوز 3 صفحات، فلا تكشف شيئًا عن نوعية الأعمالالتي تقوم بها الشركة لمصلحة المصارف والمصرف المركزي، مقابل تحصيل العمولات الخياليّة.وحسب العقد نفسه، “يرغب مصرف لبنان بالاستفادة من خبرة ومعرفة شركة فوري”.
وهذا ما دفعه إلى “السماح للشركة، بعد موافقتها، بالعمل كوكيل لبيع منتجات مصرف لبنان الماليّة”.
وبصفة وكيل يعمل بالنيابة عن مصرف لبنان، تمكنت الشركة بيع منتجات تشمل“سندات اليوروبوند الصادرة عن الدولة اللبنانيّة، وسندات الدين بالليرة اللبنانيّة،وشهادات الإيداع الصادرة عن مصرف لبنان“. وصار بإمكان الشركة “تحصيل عمولات تصل
إلى ثلاث أثمان بالمئة من قيمة هذه المنتجات”، أي ما يقارب 0.375 في المئة من قيمتها.وبحسب مندرجات العقد، سيكون بإمكان الشركة بيع هذه المنتجات بمختلف العملات الموجودة في السوق،كما سيكون بإمكانها جني العمولات والأرباح من بيع هذه المنتجات بجميع العمولات أيضًا.أما اللافت، فهو أن العقد نفسه ينص على أن هذا الحق لا يمثّل حقًا حصريًا لشركة فوري للعمل بهذه الصفة،
ما يفتح باب السؤال عن احتمالات وجود عقود أخرى مماثلة،سمحت لشركات غير فوري بجني عمولات خياليّة من بيع منتجات مصرف لبنان.ويبدو واضحًا في بنود العقد، أن رياض سلامة حرص على إبعاد عمليّات شركة فوري المالية،
وخصوصًا تلك التي تُعنى بالعمولات التي تجنيها، عن أي مساءلة أو تدقيق أو رقابة.فالعقد ينص على فتح حساب “مقاصّة” خاص لشركة فوري، من خارج ميزانيّة مصرف لبنان،
لتجميع العمولات الخاصّة بالشركة قبل تحويلها إلى حساباتها في الخارج.ولفهم أهداف هذه البنود وخطورتها، تكفي الإشارة إلى أن التحقيقات الجنائيّة كشفتأن رياض سلامة حرص في مراحل لاحقة على منع شركات التدقيق المحاسبي
التي عملت في مصرف لبنان من الإطلاع على حساب العمولات الخاص بفوري،
على اعتبار أن هذا الحساب لا يدخل ضمن ميزانيّات المصرف المركزي، ولا يفترض أن يخضع إلى تدقيق الشركات.
أمّا المسألة الأكثر غرابة، فهي أن العقد لم يذكر بوضوح مسائل بديهيّة كان يفترض أن تتوضّح في عقد ستنتج عنه عمولات بمئات ملايين الدولارات، مثل هويّة المفوّض بالتوقيع الذي وقّع العقد بالنيابة عن الشركة، أو المعلومات القانونيّة المتعلّقة بالشركة نفسها،
كمكان ورقم تسجيلها. باختصار، كان من الواضح أنّ غموضًا والتباسًا كبيرين أحاطا بهذا العقد، سواء
من ناحية هويّة الشركة أو اختصاصها، أو من جهة سبب تكليفها بمهام جنت منها أرباحًا طائلة لمصلحة أصحابها.
وتجدر الإشارة إلى أن سلامة هندس الصفقة التي استفادت منها “فوري” بدهاء ومكر:
فالعمولات لن يتم سدادها من أموال المصرف المركزي أو المال العام مباشرةً
بل من أموال المصارف التي تشتري سندات الدين العام أو شهادات إيداع مصرف لبنان،
فيما ستكون المصارف قادرة على تحصيل قيمة العمولات
التي دفعتها لـ”فوري” من الفوائد المرتفعة لسندات الدين العام وشهدات الإيداع.
وبهذه الطريقة، تمكّن الحاكم من إبعاد “فوري” عن أعين المدققين والمراقبين،
كما تمكّن مؤخّرًا من استخدام حجّة “عدم استفادة الشركة من أموال عامّة”.
فوري: شركة وهميّة
لاحقًا، أظهرت التحقيقات أن شركة فوري لم تكن سوى شركة واجهة، أو شركة وهميّة،
تم تسجيلها بإسم رجا سلامة لتقوم بهذه المهمّة بالذات، أي نيل “الوكالة” لبيع منتجات مصرف لبنان،
ومن ثم تحصيل العمولات الخياليّة الناتجة عن عمليّات البيع هذه. مركز الشركة
في لبنان لم يكن سوى شقّة خاوية خالية دومًا من أي موظف أو معدات،
وسجلاتها لم تظهر وجود أي نشاط مالي أو تقني، باستثناء تحصيل العمولات
من بيع سندات الدين السيادي وشهادات الإيداع. بمعنى آخر، لم يكن الـ 325 مليون دولار سوى أرباح مجانيّة،
نتجت عن إعطاء الشركة “الواجهة” حق العمل كوسيط مع المصارف، مقابل الحصول على هذه العمولات.
وهذه المسألة بالتحديد، تفسّر اقتصار العقد على ثلاث صفحات مقتضبة،
لم تذكر نوعيّة نشاط الشركة ولا الخدمات التي تقدّمها مقابل العمولات،
كما تفسّر عدم تضمين العقد أي معلومات قانونيّة بخصوص مكان
ورقم تسجيل الشركة أو هويّة الشخص الذي وقّع العقد بالنيابة عنها.
مع العلم أن عقود الخدمات الماليّة بالتحديد تمتاز بتوسّعها من ناحية الدخول
في تفاصيل الأحكام والشروط التي تحكم عمل المستفيدين من هذه العقود،
نظرًا لتشعّب التفاصيل التقنيّة لهذه العقود. وهذا ما يجعل اقتضاب عقد “فوري” مسألة مستغربة، لا بل مشبوهة.
أما تهمة إساءة استعمال النفوذ الموجهة لسلامة، فترتبط بلجوء الحاكم إ
لى توقيع العقد من دون علم المجلس المركزي لمصرف لبنان،
ودون إطلاع المسؤولين في المصرف على نوعيّة العقد الذي استفادت منه “فوري”،
بل من دون علم المسؤولين – باستثناء مدير العمليّات الخارجيّة في المصرف-
بوجود هذه الشركة وعملها. مع الإشارة إلى أن الحاكم حرص على فصل عمليّات “فوري”
في حساب وسيط خاص، لإبعاد عمل الشركة عن أعين موظفي المصرف المركزي،
والحؤول دون طرح تساؤلات عن سبب استفادة “فوري” من هذه العمولات الخياليّة من دون تقديمها أي خدمات تُذكر.
ببساطة، حاكم المصرف المركزي، المتهم بالسماح للمصارف بالتوسّع في إقراض الدولة ومصرف لبنان،
كان يجني أرباحًا طائلة- عبر شركة شقيقه- من توظيفات المصارف في الدين العام وشهادات الإيداع في مصرف لبنان. وبهذه الطريقة، كان انكشاف المصارف على المخاطر المتزايدة، نتيجة ربط ميزانيّاتها
بالدين العام وميزانيّة مصرف لبنان، أحد مصادر ثروة حاكم المصرف المركزي.
وهنا بالتحديد، تبرز إشكاليّة تضارب المصارف والكسب غير المشروع، والتسبب بضياع أموال المودعين، مقابل تكوين الحاكم وشقيقه ثروات شخصيّة في الدول الأوروبيّة.